القلب في أطواره

عجيب أمر هذا القلب في أطواره فهو في تقلب دائما لا يسكن له حال يتنقل بخفة من صفة إلى أخرى , ومن طور إلى طور في غمضة عين . فهو يتراوح بين القسوة واللين , والفرح والحزن , ومن السعة إلى الضيق باحثا عن راحته وسموه . ولكنه يسمو في أبهى مراتبه و أطوراه حين يشعر بالخشوع ليرتفع عاليا محلق عن أصل خلقته ومادته وهي التراب.

طور الخشوع هو أعلى مراتب رقي الروح , ففيها تصغر الدنيا في عينه حتى تصبح كأنها حبة رمل على قمة تل لا يكاد يبصرها , بل لا يهمه شأنها . و تصبح أحداث الدنيا المهولة كأنها نسمة تسف الوجه قليلا وترحل لتأخذ الأحزان والأفراح معا فلا يشعر القلب إلا بوخزة قصيرة ثم يرجع إلى خشوعه وصمته ووقاره . ما أرق الخشوع وصفاؤه فهو راحة للقلب , وهيبة ظاهرة على الجوارح , وهي تتبعه طائعة خانعة, مستسلمة لسيدها وقائدها.

وأما إذا جنح القلب إلى طور القسوة فلا تسال عن جموده وصلابته فهو لا يرى إلا نفسه معتد بها مزهوا بقسوته , مغرورا بأفعاله متخبطا بأقواله. يعتقد أن العالم يدور حوله ومن أجله.

وهناك طور يدلف إلينا خلسة فترى القلب منطوي على نفسه يغلق بابه فلا يسمع إلا صدى صوته. يحكي ويشكي نفسه لنفسه , منكسر الهامة , جريح الخاطر , يسلي نفسه بالصمت , ويحدث نفسه بالآهات ويكتم فيها الزافرات. لا يرى الدنيا إلا بغشاوة سوداء تمطر حزنا , وترعد ألما , وتبرق سوادا , فتصبح الدنيا الواسعة ضيقة كأنه يتنفس من سَمِّ الخياط , وكأن الشمس قد انكسفت فأصبح النهار كالليل سواء بسواء. ولم يعد ذلك القلب يرجوا الفجر, ولا ينتظره بل يعيش في ظلام دامس إذا أخرج إصبعه لم يكد يره , وذلك هو طور الحزن.

وأما إذا نظرت إليه في طور الفرح فهو يغدو كالطير يرى الدنيا رحبة لا حدود لها , ويرى السماء صافية, والشمس ساطعة كأن نور أشعتها خيوط رذاذ يغمر الجو بعطر الفرح , ليتغذى القلب منها بروح الأمل فيبصر طريقه من جديد.

لا تجزع من تجوَّل القلب بين أطواره مادام يعود متلهفا إلى خشوعه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي