التنمية التي أتمناها (2 من 2)
كما ذكرت في المقال السابق، أن الفجوة بين مفهومي التنمية الرعوية والتنمية المستدامة هي القدرة على نقل بعض مسؤوليات التنمية عن كاهل الحكومة إلى شركائها في بقية القطاعات، بحيث لا تصبح الحكومة المحرك الأساسي والثانوي والكلي لكل شيء، وتصبح بقية قطاعات الدولة عبارة عن تلاميذ بليدين أو كسالى في مدرسة الحكومة، أو بمعنى أدق أنهم يتوقعون كل شيء من الحكومة دون الإحساس بمسؤولياتهم نحو الوطن والمواطن.
وأولى هذه الخطوات المطلوبة للوصول إلى مفهوم وبرنامج التنمية بكل أبعادها الشاملة والمتوازنة والمتوازية والمستدامة، هي تحديد من مسؤول عن ماذا في كل ما يتعلق بالتنمية، وعلى وجه الخصوص متطلبات المواطن ودوره في تحقيق تلك المتطلبات بحيث لا يتحول هو أيضًا إلى طالب بليد أو كسول في مدرسة الحكومة من خلال كثرة التشكي والنقد لما يقدم أو لا يقدم. وهنا، فإن الفصل بين دور الدولة والحكومة أمر في غاية الضرورة حتى تعود الحكومة إلى حجمها الطبيعي ويتم تحديد، أو بمعنى أصدق تقزيم دورها فيما تتطلبه التنمية منها، وهنا يجب أن يتم تحديد دور الحكومة ضمن منظومة قطاعات الدولة في تحديد مسؤولياتها تجاه الوطن والمواطن، ومنها على سبيل المثال حماية وصيانة الضرورات الخمس التي أمر بها الدين الحنيف، وهي: الدين، النفس، العقل، العرض، والمال ليعيش المواطن في وطنه آمنًا مطمئنًا، ويحقق له الأمن والطمأنينة والقدرة على العمل من أجل الدنيا والآخرة. وهذه الضرورات الخمس مع مسؤولية الحكومة عنها شيء أساسي، إلا أن دور مختلف القطاعات الأخرى والمواطن أمر ضروري لقول المصطفى ـــ عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
كل واحدة من الضرورات الخمس تتطلب مخرجات وأعمالاً لحمايتها وضمان دوامها، وهنا يبرز دور الدولة في رسم السياسة العامة لها في ضوء ذلك تحديد الأدوار لمختلف قطاعاتها، والأمر هنا يطول في الإيضاح والشرح، لكن ما يهمني في هذا المجال هو إيضاح المسؤوليات والواجبات والمرتكزات على ولكل قطاع من قطاعات الدولة الخمسة، إضافة إلى دور المواطن في تحقيق ذلك.
الأمر الثاني الذي يجب أن تحققه التنمية المستدامة وتعني به الحكومة، هو تحقيق المتطلبات الأساسية للمواطن من تعليم وصحة وبنية تحتية وخلق وإيجاد القطاعات المولدة لفرص العمل الحقيقية التي يستطيع المواطن أن يخدم متطلباته من خلالها، ففي مجال التعليم لا بد أن تضمن الحكومة فرصة التعليم لكل راغب وفي كل المستويات التعليمية، لكن لا تشغل نفسها في قطاع التربية والتعليم بالمنشآت والنقل وغيرها؛ ما يضعف دورها في تحديد السياسة التربوية والتعليمية ورسمها، وكذلك في مجال الصحة. ولعل تجربة تحول بعض المؤسسات الحكومية إلى قطاع استثماري خاص مثل الاتصالات والمياه والصرف الصحي، ولعل تجربة تحول بعض المؤسسات الحكومية إلى قطاع استثماري خاص مثل الاتصالات والمياه والصرف الصحي والكهرباء، وتحول دور الحكومة فيها للجهاز المنظم والمراقب رأينا إلى حد جيد تطور الخدمات في هذه القطاعات والتحول في مثلها من خدمات سيزيد من جودة الخدمة وشرعة أدائها وتطورها، وهذا يتطلب فتح المجال للمنافسة المنضبطة بالجودة وحسن الأداء، وهذا الأمر يمكن تطبيقه في مجال الصحة من خلال التأمين الصحي الفاعل المراقب؛ ما يحقق الارتقاء بالخدمات الصحية وسهولة الحصول عليها.
الأمر نفسه ينطبق على توفير المساكن فبدل تدخل الحكومة في توفيرها وتحمل هذه المسؤولية الثقيلة المحملة بكثير من العقبات والمفاسد، تعطى هذه المشروعات لشركات التطوير ويكون للمواطن الحق في شراء الوحدة أو السكن الذي يناسبه ويتفق مع دخله بدلاً من نظام القطيع في الإسكان ويكون معيار الجودة وحسن الأداء هو دور المؤسسة الحكومية يعينها في ذلك دور المواطن في حسن الاختيار، ولقد أثبتت كثير من التجارب الدولية فشل نظام التنمية الرعوية، خصوصًا في مجال الإسكان لصعوبة تحقيق المتطلبات السكانية الإنسانية للساكن، فالساكن يحتاج إلى اختيار الجار والمسكن، ولا يمكن أن يتأقلم مع أناس يختلف معهم في أبسط العلاقات الأسرية أو المجتمعية، وتجربة عديد من دول العالم أكدت فشل نظام الإسكان الجماعي بكل أشكاله وأنواعه، وإعطاء المواطن الدور الأكبر في الاختيار وهو الأفضل، كما أن تجاربنا في البناء الفردي لم تكن جيدة مع نجاحها في تحقيق عديد من النماذج الإيجابية، لكن خللها الأساسي عدم التكامل بين بناء الوحدات السكنية وتوفير المرافق والخدمات، وسبق لي إيضاح ذلك من خلال عديد من المقالات.
إن نموذج الانتقال من التنمية الرعوية إلى التنمية المستدامة في أربعة نماذج، هي الصحة والتعليم والإسكان والبنية التحتية يمكن تطبيقه على بقية متطلبات السكان الآخرين، لكن يبقى التحدي الأساسي والحقيقي والمهم على الدولة أولاً، ثم على بقية قطاعاتها، وعلى رأسها القطاع الحكومي هو تحقيق توطين فرص العمل لكل فئات السكان من خلال سياسة تعليمية عملية منضبطة بالأهداف والمهام وتتطور مع النمو السكاني، وهذا الأمر في متناول اليد بكل يسر وسهولة عندما نحول مشروعات منتجة في مجالات البترول والطاقة والإنشاءات والنقل والصيانة والصحة والتعليم والصناعة والزراعة والمعرفة بمعنى أننا نملك كل القطاعات الإنتاجية القادرة على خلق وإيجاد فرص عمل غير منتهية لكل المستويات والإمكانات والقدرات السعودية، والجميل أن كل ما يمكن إنتاجه في السعودية يمكن استهلاكه أو أغلبه داخلها، بحيث لا نرتبط بمشاكل التصدير مع أننا قادرون على إيجاد قطاعات إنتاجية تنموية منافسة في الأسواق العالمية.
وأخيرًا، أعلم أن طرح مثل هذا الأمر أو الفكر في مقالة يعدّ اختزالاً مخلاً بها، لكن فقط لإيضاح الإمكانات والقدرات التي نملكها ونستطيع أن نحقق من خلالها الاستقرار التنموي الأمني الشامل لجميع فئات المجتمع، ونعطي الفرصة للجميع لتحقيق حياة كريمة من خلال تنمية مستدامة.
وفّق الله الجميع لما يحب ويرضى، والله من وراء القصد.
وقفة تامل :
«ومـا مجـاهـدة الإنـسـان توصـلـه
رزقـًا ولا دعـة الإنـسـان تقطـعـه
قـد وزّع الله بيـن الخـلـق رزقـهـمُ
لـم يخلـقِ الله مـن خـلـق يضيـعـه
لكنهـم كلفـوا حرصـًا فلسـت تــرى
مسترزقـًا وسـوى الغـايـات تُقنـعـه
والحرص في الرزق والأرزاق قد قسمت
بغـي ألا إن بغـي المـرء يصـرعـه
والدهر يعطي الفتى مـن حيـث يمنعـه
إرثـًا ويمنعـه مـن حـيـث يطمـعـه»