يكفي يا وزارة التعليم العالي
عقد مجلس جامعة الدمام جلسته الرابعة للعام الجامعي الحالي، وأكد وكيل الجامعة لشؤون الفروع أن المجلس ناقش عدداً من الموضوعات ذات الصلة بالشؤون الأكاديمية والإدارية والمالية واتخذ القرارات المناسبة، من أهمها إنشاء كليتين للطب والصيدلة في محافظة حفر الباطن، وذلك انطلاقا من حرص الجامعة ومسؤولياتها نحو تلمس احتياج محافظات المنطقة من قطاع التعليم العالي. وتأتي هاتان الكليتين إضافة إلى ما سبق رفعه بالتوصية لإنشاء أربع كليات في محافظة حفر الباطن وهي (التربية، والآداب، والعلوم، وعلوم الحاسب وتقنية المعلومات). كما وافق مجلس جامعة الدمام على برنامجين لمرحلة الدراسات العليا الأول للماجستير في التربية، ''تخصص مناهج وطرق التدريس'' في كلية التربية في الدمام في التخصصات الفرعية مثل العلوم الشرعية، اللغة العربية، العلوم، الرياضيات، علوم الحاسب، والثاني برنامج الدبلوم العالي العام في التربية الخاصة، في كلية التربية في الدمام. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، فإضافة إلى كل هذا وافق المجلس على أعداد مقاعد القبول للعام الجامعي 1434/1435، في برامج الدراسات العليا التي تقدمها الجامعة بـ 782 مقعداً، تشمل درجات الدكتوراه، والزمالات الطبية، والماجستير، والدبلومات.
هذا نموذج لقرارات مجالس الجامعات السعودية فتح كليات، والموافقة على برامج دراسات عليا، وإقرار دبلومات، وتوسع في جميع التخصصات أفقيا ورأسيا. وضع كهذا يصيبنا بالدهشة ويضع في أذهاننا كثيرا من علامات التعجب والاستفهام، خصوصا نحن الذين نمارس العمل التشغيلي في الجامعات، ونعلم انعكاس مثل هذه القرارات غير المدروسة على الواقع الأكاديمي. ونحن بذلك نسأل إلى أين سيصل بنا هذا الطوفان، وإلى أين تقودنا هذه الارتجالية؟ وما مصير هذا الكم الهائل من الكليات الهشة وبرامج الدراسات العليا الضعيفة وخطط الابتعاث العشوائية؟ نحن لا نعارض ألبتة التوسع في التعليم العالي إذا كان يرافقه بنية تحتية وتجهيزات ضخمة ووقت يستوعب كل هذا، وأهم المهم العنصر البشري الذي سيُشغل ويُحرك هذه الكم الهائل من الكليات والمعاهد والبرامج. ألا تعلم هذه الجامعات ما يدور داخلها وبين أروقتها؟ ألا تعلم هذه الجامعات حجمها وقدرتها الاستيعابية؟ ألا تعلم هذه الجامعات أن برامج البكالوريوس لم تنضج بعد في أغلبية الجامعات السعودية، فكيف تقيم على أنقاضها برامج للدراسات العليا؟ ألا تعلم هذه الجامعات أن نسبة كبيرة من أعضاء هيئة التدريس الذين أتوا إلينا في السنوات الأخيرة غير مؤهلين، على أن يكونوا معلمين لمحو الأمية فكيف بأساتذة جامعات؟ ألا تعلم وزارة التعليم العالي أن الجامعات الثماني اللاتي ظللنا نتغنى بها عقودا تعاني شحا في أعضاء هيئة التدريس الأكفاء، ورداءة في برامج البكالوريوس، فكيف بجامعات لم يتعد عمرها أربع إلى خمس سنوات تضم بين جنباتها مسارات للدراسات العليا؟ والسؤال الذي يحير الألباب: كيف يتم الجمع بين هذه البرامج الأكاديمية الهزيلة ومعايير الجودة والاعتماد الأكاديمي؟
نحن لا ندرى ماذا تريد وزارة التعليم العالي وما يدور في فلكها من الجامعات من كل هذا؟ هل هو تكفير عن السنين الخوالي التي كان التعليم العالي حكرا على مناطق محددة من بلادنا؟ أم أنها تريد أن توزع على كل مواطن ورقة خاوية تسمى شهادة توهمه بأنه أهل للماجستير أو الدكتوراة؟ ما الفائدة من شهادات ليس وراءها حصيلة علمية، أو إضافة بحثية، أو تطور فكري، أو كم معرفي؟ أين ستصل بنا هذه الفوضى ومن يتحمل وزرها وتبعيتها ونتائجها المدمرة؟ لقد وصل الوضع إلى أن بعض الجامعات، نتيجة الشح في أعضاء هيئة التدريس، وصل البعض بها الأمر إلى أن تسند الإشراف على الأبحاث إلى المعيدين الذين كانوا بالأمس طلابا على مقاعد الدراسة ولم يجتازوا مادة واحدة من مواد تمهيدي الماجستير. وإن لم يجدوا فيتحسسون عن محارم بعض الموظفات الأجنبيات الذين لديهم مؤهلات من مؤسسات تعليمية تعمل في الظلام لعلهم ينقذونهم من ورطتهم.
إن التوسع في التعليم العالي لا تحدده الأقسام العلمية، أو رغبة أبناء منطقة ما، ولا يحدده مجلس الجامعة، بل خطة وطنية متكاملة تشرف عليها عدة وزارات تسير بعقلانية وتنجز على مراحل متباعدة حسب الموارد المتاحة، خصوصا الموارد البشرية. ولا أدري لماذا هذه الانطلاقة غير المنضبطة، خصوصا في الدراسات العليا رغم أن خطط التنمية لا تتطلب مؤهلات عليا، بل جودة مخرجات الجامعات في التخصصات لمرحلة البكالوريوس. وأريد أن أعيد وأكرر خطط التنمية ليس فقط في بلادنا، بل في جميع الاقتصادات تريد مخرجات ذات كفاءة عالية لمرحلة البكالوريوس ولا تحتاج ألبتة إلى مؤهلات عليا، فأزمتنا الحقيقة ليست أزمة تعليم، بل أزمة وظائف وتدريب. فنتيجة لرداءة مخرجات التعليم العام وتشتته كانت البطالة مقتصرة على خريجي الثانوية العامة، وعندما انتقلت العدوى إلى التعليم العالي انتشرت البطالة بين خريجي الجامعات، أما الآن فقد تفاقمت الأزمة فأصبحت البطالة بين حملة الماجستير والدكتوراة بسبب البرامج الركيكة التي تقدمها الجامعات في كل منطقة وقرية، ومن لم يحالفه الحظ فليشد الرحال إلى أبعد نقطة في الكرة الأرضية وليأتِ بمؤهل لا يقل عن الماجستير ثم يعود ويصف في طابور البطالة من جديد وينتظر دوره حتى يشيب رأسه.
نتمنى من وزارة التعليم العالي أن تقف بحزم وتصدر أوامرها للجامعات بإيقاف هذه الفوضى وهذا التوسع العشوائي، حتى يتم تقييم التطورات المتسارعة في الحقبة الماضية بمصداقية دون مبالغات أو تغييب للحقيقة. نحن نلاحظ بعض برامج الماجستير التي تقدمها بعض الجامعات تغير مسارها وتبدل برامجها حتى أصبح بعضها يوحي للطلاب بأن مجرد قبولهم في البرنامج يعد اعترافا بتخرجهم، فلا يقبلون بأقل من معدل ''ب''، وإن حدث فهناك لجنة تحقق في الموضوع، ولو تعنت عليهم أستاذ وأراد أن يطبق منهجية الدراسات العليا وفقا للجامعات التي تحترم ذاتها، فتحول حوله الدوائر وينعت بالتشدد والحقد وتأخير عجلة التنمية، حتى يستبعد من البرنامج من أجل أن يحصل الجميع على مؤهل عال وينادى كل الشعب بلقب ''دكتور''.