المسؤولية الاجتماعية أمام «التأمينات الاجتماعية»

بتقلد سليمان بن عبد الرحمن القويز، منصب محافظ المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، يكون بذلك القيادي الأول الذي يدير المؤسسة من خارج منظومتها.
فالمحافظ الجديد لم يأت من مظلة وزارة العمل أو القطاع الحكومي، إنما جاء من القطاع الخاص، وهو التوجه المحمود الذي تشهده السعودية منذ سنوات متمثلا في استعانتها بقياديين من القطاع الخاص لإدارة مؤسسات حكومية وتحريرها من قيود البيروقراطية العقيمة.
كان القويز إلى أيام قليلة مشتركا في نظام التأمينات، وربما تجمعت طيلة خدمته في البنوك ملاحظات على النظام وآلية تطبيقه – كما هو الحال مع معظم العاملين في القطاع الخاص - لكن ها هو ذا الآن يدير المؤسسة التي كان خاضعا لنظامها في السابق.
وبحكم أن القويز الذي أتى من ''بنك الرياض'' يأتي بفكر إداري مختلف تماما عن الفكر الإداري الذي كان مهيمنا ردحا من الزمن في أرجاء المؤسسة، وانعكس أثره في سياساتها وإجراءاتها وممارساتها، فإننا نعول على المحافظ الجديد إحداث التغيير الذي ينشده عملاء المؤسسة وموظفوها.
فالمؤسسة – باعتبارها جهازا تنفيذيا – أسهمت في صياغة نظام التأمينات الاجتماعية الذي صدر في عهد الملك فهد - رحمه الله - بموجب المرسوم الملكي ذي الرقم (م/33)، وتاريخ 3/9/1421هـ، ويطبق على موظفي القطاع الخاص وفئة من العاملين في القطاع العام.
وقد تناولنا في مقال سابق أن جزءا من الخلل الإداري الذي نعانيه في السعودية يعود إلى أن الأجهزة الحكومية (التابعة للسلطة التنفيذية) هي التي تسن الأنظمة وهي ذاتها التي تشرف على تطبيقها، وهذا يكشف عن تضارب في الأدوار، والمفترض أن الجهة التنفيذية لا يكون لها أي دور تشريعي (نظامي)، وأن ينحصر مثل هذا الدور في السلطة التشريعية (البرلمان أو مجلس الشورى عندنا).
غير أن مؤسسة التأمينات الاجتماعية عندما صاغت النظام الذي أشرفت لاحقا على تطبيقه، صاغته من منظورها الأحادي، ولم يراع وجهات نظر الأطراف الأخرى، ولذلك جاءت بعض أحكام نظام التأمينات ولوائحه جامدة، دون أن تتيح المرونة لصاحب العمل أو الموظف، ومن ذلك:
- فرض غرامات تأخير تصاعدية على أصحاب العمل في حالة تأخرهم عن سداد الاشتراكات الشهرية في الموعد المحدد، ولنا أن نفكر في قدرة رجل الأعمال السعودي على خدمة الاقتصاد الوطني وتحقيق الأرباح وهو مطوق بسياج من الرسوم والغرامات الحكومية!
- صاحب العمل ملزم بتسجيل العامل في نظام التأمينات مهما كان يوم التحاقه بالشركة، وبالتالي ملزم مع العامل بدفع نسبتهما من الاشتراكات كاملة سواء التحق العامل في اليوم الأول من الشهر الميلادي أو اليوم التاسع والعشرين، مع أنه من ''العدل'' أن يستقطع من صاحب العمل والعامل الاشتراك بالنسبة للأيام التي قضاها العامل من الشهر وليس عن الشهر كاملا!
- صاحب العمل ملزم بتحديث أجور الموظفين في نظام التأمينات مرة واحدة في بداية السنة، رغم أن الترقيات وزيادات الرواتب للموظفين في القطاع الخاص لا تتم بصورة ''جماعية''، بل بصورة فردية، تبعا لاعتبارات منها مستوى تقييم أداء الموظف ومستوى الأداء المالي للشركة، كما أنها لا ترتبط بفترة محددة من السنة، إضافة إلى أن الترقيات وزيادات الرواتب تختلف من شركة إلى أخرى حسب سياساتها الخاصة بالموارد البشرية، وكان الأجدى أن يتاح تحديث أجور الموظفين في نظام التأمينات في أي وقت، بحسب المتغيرات التي تطرأ على حالة كل موظف.
ويظل الأهم أن التأمينات الاجتماعية التي تعد أكبر مستثمر مؤسسي داخل السعودية، ولديها استثمارات طائلة تصل إلى أكثر من 49 مليار ريال سعودي لا تؤمن حتى الآن بالمسؤولية الاجتماعية كما تفعل البنوك التي تستثمر فيها المؤسسة 38 في المائة من أموالها!
ففي دراسة أجراها البنك الأهلي التجاري (2009) عن المسؤولية الاجتماعية في السعودية كشفت عن أن 62 في المائة من المستطلعين يؤمنون بأن إدراك المؤسسة أو الشركة للمسؤولية الاجتماعية يوثق من مستوى العلاقة بينها وبين عملائها، كما أن 60 في المائة ممن أجريت عليهم الدراسة يشعرون بأن المؤسسات التي لديها برامج في المسؤولية الاجتماعية قادرة على تحفيز موظفيها إلى أقصى درجة ممكنة.
وأشارت الدراسة إلى أهم ثلاثة أنشطة في مجال المسؤولية الاجتماعية في السعودية، وهي: توفير فرص عمل للعاطلين (49 في المائة)، دعم رواد الأعمال (47 في المائة)، وتنظيم أو دعم حملات توعوية لمكافحة التدخين (46 في المائة)، إضافة إلى ذلك، هناك نشاطات أخرى، تحظى بدعم برامج المسؤولية الاجتماعية، كتوفير الرعاية الصحية للفئات المستضعفة، ودعم برامج التعليم والتدريب لذوي الاحتياجات الخاصة وأبناء الأسر محدودة الدخل.
وقد يقول قائل إن نظام التأمينات الاجتماعية لا يجيز صرف الأموال على برامج المسؤولية الاجتماعية، وسأرد عليه بأن كلامه صحيح، لكن من الذي صاغ النظام بالأساس .. أليست المؤسسة؟ حتى إن عرضت مسودة (مشروع) النظام على هيئة الخبراء ومجلس الشورى.
فالمادة (22) من نظام التأمينات الاجتماعية توضح أوجه الصرف وتشير إلى أنه يقتصر الصرف من أموال المؤسسة ومواردها على تقديم التعويضات التي ينص عليها النظام وتغطية نفقاتها الإدارية اللازمة (تبلغ 5 في المائة من مواردها، وقد تصل إلى 7 في المائة بموافقة مجلس الوزراء).
لكن الأنظمة ليست ذات صبغة أبدية وإنما قابلة للتعديل وفق مقتضيات المصلحة العامة، كما هو الحال مع نظام العمل (وهو النظام الشقيق لنظام التأمينات) الذي نترقب الموافقة على تعديل بعض مواده، لهذا من الممكن أن نحدث تعديلات على نظام التأمينات الاجتماعية تتماشى مع تطلعات المستفيدين على وجه الخصوص، وتطلعات المجتمع على وجه العموم.
لذلك، نعقد آمالنا على المحافظ الجديد سليمان القويز أن يحدث تغييرات غير مسبوقة داخل المؤسسة على كافة المستويات، أبرزها على مستوى المسؤولية الاجتماعية الغائبة، إذ يمكن تخصيص نسبة بسيطة (2.5 في المائة مثلا) من عائدات الاستثمار لدعم وتقديم برامج اجتماعية واقتصادية يستفيد منها أبناء وبنات المجتمع السعودي. إننا نريد أن نرى من المؤسسة دورا يتجاوز الدور التقليدي المتمثل في صرف معاشات للمتقاعدين، فتلك في النهاية أموالهم.. ُحصّلت منهم في ''الصغر''.. وردت إليهم في ''الكبر''!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي