مَن تعلق بموارده المالية.. فَقَدَ موارده البشرية

يلاحظ في الآونة الأخيرة نزعة بعض الشركات السعودية للاحتفال بالذكرى العشرين أو الثلاثين لتأسيسها، وما ترافق مع ذلك من حملات دعائية ضخمة، تبرز بكل وضوح ''العمر'' الذي بلغته الشركة على مطبوعاتها كافة.
إنه لشيء جميل أن تطفئ الشركة ''شمعة'' في كل مرحلة من مراحلها احتفاء بالتقدم المحرز، لكن ليس جميلا أن تكون قد أشعلت تلك ''الشمعة'' من عرق الموظفين الضائع وجهودهم غير المثمنة!
بعض هذه الشركات كانت تلهث طوال عمرها لتحقيق نجاحات مالية على حساب موظفيها، مع أنه من الصعب لأي شركة أن تنجح في تحقيق نسب أعلى من الإيرادات والأرباح، دون أن تستوفي الحقوق الأساسية للموظفين أو تراعي أبسط متطلباتهم، وهم أولئك الذين يقعون ضحايا لصراعات المديرين، ويتعرضون لضغوط من شتى الأنواع لتوجيههم نحو هدف ''قسري'' واحد: جني المزيد من المال!
إننا عندما نرتدي نظارة ''القوائم المالية''، وندير الشركات بعقلية ''محاسبية'' بحتة، ننظر إلى الأشياء من حولنا بلغة الأرقام.
وإذا نظرنا إلى الأشياء من حولنا بلغة الأرقام، فبالتأكيد سننظر إلى الموظفين على أنهم مجرد ''أرقام'' في دفاترنا المحاسبية: (عدد ...) موظف جديد انضموا للشركة، (عدد ...) موظف حاليا (عدد ...) موظف غادروا الشركة.
عندما ننظر إلى الأشياء من حولنا بلغة ''الأرقام''، نجرد الموظفين من ''إنسانيتهم''، وننسى أن لهم احتياجات داخل مقر العمل (ومن ذلك توفير برامج التدريب والتطوير الوظيفي) يسعون إلى تحقيقها، بل نغفل تماما عن المحفزات والدوافع التي تعزز ولاء الموظفين تجاه شركاتهم.
عندما ننظر إلى الأشياء من حولنا بلغة ''الأرقام''، يتحول الموظفون إلى ''مكائن'' في أعين المديرين، فإن تعطلت ماكينة، سارعوا باستبدالها بماكينة جديدة.
إننا بالتأكيد لا نقلل من أهمية التركيز على ''المال'' بالنسبة للمؤسسات الربحية، لكن ذلك يجب ألا يتم على حساب أعز ما نملك: البشر.
فالإدارة الناجحة تهتم بالمال، لكنها لا تجعل هذا ''المال'' يطغى على اهتمامها بالبشر، وهذا ما يجعلها شركات قادرة على استبقاء موظفيها المميزين (employee retention)، والمحافظة عليهم من التسرب، وعلاوة على ذلك، تستطيع أن تخفض من تكاليف الاستقطاب والاختيار والتوظيف والتدريب، وهي في النهاية ''أرقام'' لمن لا يجيدون إلا فهم لغة الأرقام، والفرق الوحيد أنها لا تظهر في ''القوائم المالية''!
لقد أظهرت دراسة أمريكية تقصت أفضل السبل لاستبقاء الموظفين والحفاظ عليهم أن الشركات المفضلة (employers of choice) لدى الشباب الأمريكي تنتهج مجموعة من الممارسات، من ضمنها:
- توظيف الفرد المناسب في المكان المناسب (الكفاءة أساس التوظيف وليست الواسطة!).
- معاملة الموظفين بمستوى عال من الاحترام والثقة.
- منح الموظفين الموارد والصلاحيات اللازمة التي تمكنهم من إنجاز الأعمال المنوطة بهم.
- تقييم الموظفين دوريا وإفادتهم بمستوى أدائهم مع التقدير والإشادة بإنجازاتهم أمام زملائهم.
وقد استخلصت الدراسة أن هناك ستة حوافز - غير مرتبة - تدفع الموظفين إلى البقاء في شركاتهم أو الخروج إلى شركات أخرى:
- التطوير الوظيفي.
- التقدير والاحترام.
- المزايا المالية.
- المرونة في ساعات العمل.
- الألفة (العشرة أو العلاقة الودودة التي تربط الموظفين فيما بينهم).
- الحصول على المزيد من المسؤوليات والتحديات داخل العمل.
علما أن ترتيب تلك الحوافز (من الأهم إلى الأقل أهمية) يختلف من موظف إلى آخر، فهناك موظفون لديهم ''ظروف عائلية'' تجدهم يتحفزون للعمل داخل شركات تمنحهم مرونة في أوقات الدوام، وهناك موظفون آخرون لا يهمهم تكوين أية صداقات أو علاقات ودودة في الشركة، إنما همهم الوحيد الحصول على دخل أعلى، في النهاية كل موظف يحدد أولوياته من هذه الحوافز، ويرتبها حسب طموحاته وتطلعاته وظروفه الشخصية والاجتماعية.
كما أن الدراسة أوضحت عددا من الخطط والبرامج التي يمكن أن تساعد الشركات على استبقاء الموظفين، وفندت في السياق نفسه صحة العلاقة التي يرددها بعض المديرين وتربط بين ضرورة توافر الموارد المالية العالية للشركة وبين قدرتها على الحفاظ على الموظفين، كاشفة عن خطط وبرامج موزعة على ثلاث فئات من الشركات: ذات الموارد المالية المحدودة، ذات الموارد المالية المتوسطة، وذات الموارد المالية العالية.
أن تعامل موظفيك بمستوى عال من الاحترام والثقة، وليس بمستوى يكشف عن التسلط أو العنجهية، هو أمر لا يكلفك – من الناحية المالية – هللة واحدة، فهل يا ترى حجة أولئك المديرين صحيحة؟ أن تمنح الكفاءات الشابة الفرصة لإدارة مشاريع صغيرة ثم مشاريع أكبر، أمر آخر لا يرتبط بـ ''حمى'' توفير الموارد المالية، فهل هذا صعب؟
إذن، الخيار أمام الشركات: إما أن تركز على الموارد المالية وتنشغل عن مواردها البشرية أو أن تضبط التوازن بين الموارد المالية والموارد البشرية، فإن أريد لكفة أن ترجح فيكون ذلك للمورد الأثمن!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي