ألا يُقاس «الأداء الحكومي» بغير التقارير السنوية؟
قبل إجراء المقابلات الشخصية، كنا نستعرض سير المتقدمين للوظائف المعلنة، وندقق جيدا في بياناتهم للتحقق من مدى تطابق مؤهلاتهم مع متطلبات الوظيفة، وكان يلاحظ أن بعض المتقدمين يبرزون في سيرهم أسماء المعرفين (المراجع) الذين يترقبون منا الاتصال بهم لتزكية المتقدم!
كنت دوما أشكك في ''جدوى'' الحاجة إلى إيراد أسماء المعرفين في السيرة الذاتية، لسبب بسيط أن صاحب السيرة لا يمكنه أن يورد اسما لمعرف قد ينتقده أو يظهر جوانب الضعف التي تعتريه!
حال المتقدمين ومعرفيهم يذكرني بحال الأجهزة الحكومية التي ''تزكي'' نفسها عن طريق تقاريرها السنوية، وهي تقارير إنشائية مزخرفة ومليئة بالتلميع والإنجازات، فهل يعقل ألا توجد طريقة لتقييم أداء الأجهزة الحكومية إلا عن طريق تقاريرها السنوية، التي تعدها هي بنفسها وبطريقة ''الكليشة'' المعتادة والمملة؟
مجلس الشورى ناقش الأسبوع الماضي مقترحا لتعديل قواعد إعداد التقارير السنوية للوزارات والمؤسسات العامة بما فيها الجامعات والأجهزة الحكومية الأخرى، وحدد المقترح تعديلات تضمن وصول تقارير الأداء السنوي لمجلس الشورى على شكل تقارير تصف وتصنف جودة الأداء ومعوقاته، بعيداً عن الشكل الحالي لإعداد التقارير السنوية الحكومية الحالية التي تعتمد على الأسلوب الوصفي، مع مطالبة بعض الأعضاء بضرورة إدراج التحديات والمعوقات التي تواجه عمل الجهاز الحكومي في تلك التقارير، مع إيراد ملحوظات ديوان المراقبة العامة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
لكن من وجهة نظري، حتى لو أقرّ مجلس الشورى مقترح تعديل قواعد إعداد التقارير السنوية، فستعتري عملية قياس أداء الأجهزة الحكومية مجموعة من العيوب، لأن المشكلة لا تنحصر في شكل التقرير السنوي أو محتواه فقط، إنما المشكلة تكمن في ''المبدأ'' .. مبدأ أن يقيم الجهاز الحكومي نفسه بنفسه، وهنا مكمن الخلل!
فالمفترض أن تكون هناك جهة حكومية مستقلة تتابع أداء الأجهزة الحكومية، قد تكون هذه الجهة وزارة الاقتصاد والتخطيط المشرفة على وضع خطط التنمية الخمسية التي يمكن أن تترجم الخطط إلى مؤشرات أداء (KPI’s) لكل جهة حكومية تحاسب عليها فيما بعد.
وربما تكون هذه الجهة ''مركز قياس الأداء للأجهزة الحكومية'' التابع لمعهد الإدارة العامة، فالمركز الواعد الذي أنشئ بناء على توصية ''اللجنة العليا للتنظيم الإداري'' أجرى دراسات عدة تتمحور حول قياس الأداء الحكومي، وكان من ضمنها دراسة أجراها الدكتور مشبب القحطاني، مدير عام المركز بعنوان ''واقع قياس الأداء في الأجهزة الحكومية''، نوقشت في ندوة ''قياس الأداء في الأجهزة الحكومية: تجارب محلية ودولية'' التي عقدها المعهد في نيسان (أبريل) 2011.
فقد كشفت الدراسة التي أجريت على 26 جهازا حكوميا متجاوبا (من أصل 29 جهازا) عن مدى جاهزية الأجهزة المدروسة لتطبيق قياس الأداء، وتبين التالي:
- 15 في المائة من الأجهزة الحكومية لديها وحدة إدارية مخصصة لقياس الأداء بالجهاز.
- 77 في المائة من الأجهزة الحكومية تسند مهمة قياس الأداء إلى وحدات أخرى مثل: التطوير الإداري، المراجعة الداخلية، الرقابة الداخلية، إدارة الجودة، التقويم والجودة، التخطيط والجودة.
- 8 في المائة من الأجهزة الحكومية لا يوجد لديها أي وحدة أو إدارة تهتم بقياس أدائها.
كما أن الدراسة القيمة أوردت عددا من المشكلات والمعوقات التي تعرقل نشر ثقافة قياس الأداء في القطاع الحكومي، مرتبة حسب أهميتها:
- ضعف مستوى الوعي بأهمية قياس الأداء (88 في المائة).
- قلة الموارد البشرية المتخصصة أو المدربة على القياس (81 في المائة).
- ضعف التشريعات والأنظمة الملزمة بقياس الأداء (77 في المائة).
- قلة توافر قواعد البيانات لغرض قياس الأداء (42 في المائة)، بينما يرى (58 في المائة) من العينة أن قواعد البيانات المتاحة كافية لغرض القياس.
- ضعف المردود الإيجابي لقياس الأداء (38 في المائة)، فيما يرى (62 في المائة) عكس ذلك.
- ضعف القناعة لدى الإدارة العليا في الجهاز بأهمية تطبيق قياس الأداء (23 في المائة) من العينة فقط.
وهناك مجموعة المعوقات الأخرى التي تعوق قياس الأداء في الأجهزة الحكومية اقترحها (46 في المائة) من العينة من أهمها: حداثة ثقافة قياس الأداء في المملكة وعدم وضوح معالمها، وندرة الشركات المتخصصة التي توفر خدمات استشارية في مجال قياس الأداء، وعدم وجود خطة استراتيجية بعيدة المدى محددة الأهداف وذات برامج تنفيذية يمكن قياسها وقياس مخرجاتها، وقصور برامج نشر الثقافة والتوعية بأهمية قياس الأداء، وعدم وجود وحدة إدارية متخصصة في كل جهاز حكومي لنشر وتطبيق قياس الأداء، وعدم توافر الموارد المالية اللازمة لإنشاء وحدات لقياس الأداء في الأجهزة الحكومية، وعدم وجود جهاز يعنى بتطبيق قياس الأداء، وضعف مستوى تقبل المجتمع وبعض الأجهزة الحكومية لقياس الأداء.
ولأن قياس الأداء الحكومي – كما ظهر من الدراسة – عملية تكتنفها صعوبات تشريعية وإدارية وتنظيمية بل حتى ثقافية (عدم تقبل النقد أو التقييم أو ''معصومية المسؤول''!)، فإنني أقترح على مجلس الوزراء ومجلس الشورى اقتراحا لا ينحصر في مجرد تغيير شكل أو محتوى التقارير السنوية للأجهزة الحكومية، إنما يتجاوزه إلى تغيير منهجية التقييم الذاتي لتلك الأجهزة إلى تقييم يتم من قبل جهة محايدة تتولى قياس الأداء الحكومي بطريقة علمية وفاعلة، مع التوصية بأن يتم نقل ''مركز قياس الأداء للأجهزة الحكومية'' من معهد الإدارة العامة إلى مجلس الشورى، وبذلك نبدأ في تدشين الخطوة الأولى نحو الدور الرقابي المأمول من المجلس.