«بي بي سي» تجدِّد شبابها بمبنى تكلفته مليار استرليني
الزخم الاحتفالي لتدشين المبني الجديد لهيئة الإذاعة البريطانية الذي شهدته العاصمة لندن أعاد لهذه الإذاعة القديمة الشهيرة وجهها وقوتها الإعلامية وشبابها الذي مضى عليه نحو 75 عاما منذ بزوغ فجر رسالتها الإعلامية. إنها ليست بالمدة القصيرة لهذا المشروع الضخم، فخلال عشر سنوات والعمل قائم بشكل مستمر لإنجاز المبنى الجديد لإذاعة بي بي سي وسط لندن في منطقة نيو برود كاستنج هاوس بميزانية مليار جنيه استرليني (ما يقل قليلاً عن ملياري دولار). وبعد 60 عاماً على افتتاحها المقر القديم، تولت الملكة إليزابيث الثانية افتتاح المقر الجديد، لافتة إلى هذه المصادفة التي تجعل عمر حكمها من عمر الإذاعة الأعرق بين هوائيات العالم خصوصاً ارتباطها الوثيق بالعالم العربي من خلال القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية، الذي كان له مكتب إنتاجي ضخم في بيروت ينجز برامج كثيرة تغذي هذا المرفق العالمي بامتياز، أيام كان المخرج نزار ميقاتي والعديد من رفاقه الإذاعيين الكبار يتعاونون على إنجاز أعمال ما زالت تتصدر أرشيف الإذاعة حتى الآن. ولم يتأثر عمل هذا المكتب رغم افتتاح إذاعة لبنان بثها في مبناها الحالي عام 1959 والتحاق معظم الإعلاميين الكبار باستديوهاتها. وأطلقت الملكة إشارة البث الرسمي من إذاعة (راديو 4) ثم زارت إذاعة (راديو1) وظهرت في خلفية البث التلفزيوني المباشر لزيارتها أثناء وجودها في غرفة الأخبار الرئيسة. وكانت ملكة إنجلترا قد زارت مبنى ''بي بي سي'' الشهير خمس مرات قبل مشروع إعادة بنائه وتجديده حتى يستوعب العاملين في مركز التلفزيون الذي أغلق في آذار (مارس) الماضي. والمبنى مقر لنحو ستة آلاف من العاملين في هيئة الإذاعة البريطانية ويبث منه ثلاث قنوات تليفزيونية وتسع محطات إذاعية، إضافة إلى أنه مقر لبث نشرات الأخبار بعدة لغات ومركز العمل في المواقع الإلكترونية المختلفة ومن بينها الخدمة العالمية و''بي بي سي'' العربية. يذكر أن هيئة الإذاعة البريطانية تقوم بهذا العمل وسط ظروف حالية أكثر صعوبة حيث تم تخفيض الميزانية المخصصة لها تمشيا مع خفض النفقات العامة في المملكة المتحدة، كما أن هناك تورطا لعدد من المسؤولين السابقين في عدة فضائح من بينها فضيحة اعتداءات جنسية على أطفال تعود وقائعها لعقود خلت. هذا الزخم الاحتفالي لإذاعة وليست فضائية تلفزيونية. صدقوا أن إنجلترا ما زالت واثقة من قيمة ووزن وأهمية هوائيات الإذاعة على ما عداها من وسائل الإعلام السائدة عالمياً، وخصوصاً آلاف الفضائيات التلفزيونية، فهل الصوت ما زال أهم؟، وهل هذا المنبر الراقي العريق لم يأخذ وهجه أي منبر آخر طوال عمر اختراع التواصل اللاسلكي، وصولاً إلى كل ما استجد في عصر الصورة من قفزات مذهلة مدهشة تجعلنا جميعاً مكشوفي الحياة على الناس؟. الواقع أن الإذاعة في بريطانيا خيار نهائي، ليس لأنها قاتلت مع الجيش في دحر وهزيمة هتلر، على يد تشرشل الذي كان يبث نداءاته وأوامره وأخبار المواجهة مع الجيش النازي من مخبئه السري تحت الأرض في لندن، بل لأن الإذاعة تسمح بحميمية أكبر في الاستماع والتواصل والانسجام وتشغيل كامل الحواس من خلال حاسة واحدة .. الأذن التي تعشق قبل العين أحياناً. وكم كان القسم العربي في ''بي بي سي'' مصيباً حين باشر منذ أشهر استرجاع برامج قديمة ثرية بمعلوماتها، وجاذبة بأصوات كبارها (حسن أبو العلا حصراً) مع لقاءات بالغة الأهمية تعتبر من الموجودات الثمينة في الأرشيف لـ : عبد الوهاب، سيد مكاوي، فاتن حمامة، أحمد شوقي، طه حسين.. تصوروا مثلاً أنكم تستمعون إلى صوتي الأخيرين.
مواد جميلة أليفة، فيها من العبق الإذاعي النموذجي الكثير مما يضع الإذاعة في مكانها الطبيعي في مواجهة ما خربته الصورة في عقولنا وثقافتنا، وما بدلته من مفاهيم عميقة أسهمت دائماً في ثبات شخصيتنا وقناعاتنا الثقافية والاجتماعية والمهنية على حد سواء.
لسنا هنا في مجال التعصب للإذاعة لمجرد النيل من حال التلفزيون، لكننا بكل بساطة نبحث عن خصوصية، عن مودة، عن هدوء نستمع خلاله إلى موسيقى، نتأمل، أو نقرأ كتاباً أو نسترجع في ذاكرتنا بعضاً مما خزنته من محاسن الأيام الماضية. مع الأسف التلفزيون لا يؤمن لنا هذا المناخ أبداً، ما من هارموني في عالم الصورة، ربما مرت محطة ما على مناخ رومانسي وإذا بها تتبعه بإعلان صاخب، أو كليب فيه فرقعة وقرقعة في الموسيقى وصوت المغني... وصولاً إلى الألوان الفاقعة في الديكورات والأزياء. نعم نحن مع الإذاعة.
وقد وجدناها فرصة سانحة من إذاعة عريقة (انتقدنا أخيراً عدداً من مذيعيها أصحاب الأصوات غير الجيدة والفقراء في اللغة تحتفل بتجديد مبناها، والاحتفال بأنها ما زالت على قيد العطاء رغم تقلبات المناخ الفضائي والإلكتروني وتحول الدنيا كلها إلى الصورة... لكن الصوت على ما يبدو: بعدو بيودي.
ودعت إذاعة ''بي بي سي'' بوش هاوس إلى الأبد وبعد 71 عاماً من الخدمة.
بوش هاوس هو المكان الذي انطلقت منه أصوات فطاحلة الإذاعيين السودانيين...الطيب صالح, محمد خير البدوي, أيوب صديق حتى الشباب منهم و أخص الأخت الكريمة رشا كشان من ''بي بي سي إكسترا'' وغيرهم. وداعاً لمقابلة الأصدقاء والصديقات في القهوة المقابلة للمبنى القريب من الاستراند.
وكانت آخر إذاعة من المبنى العريق الساعة الـ 12 ظهر اليوم و بعدها تنتقل كل الإذاعات العالمية لمبنى برود كاستنج هاوس مع غيرها من إذاعات ''بي بي سي'' الداخلية.