مصيدة السيولة وسياسات التيسير النقدي .. هل صدق كينز؟ (2)
توقفت في مقالي السابق عند ما يمكن تقديمه من حلول للخروج بالاقتصاد من مصيدة السيولة. ما قام به البنك المركزي الياباني في محاولة منه لكسر مصيدة السيولة، تطبيق ما يعرف حديثا بسياسات التيسير النقدي أو Quantitative Easing. هذه السياسات تقتضي أن يدخل البنك المركزي لاعبا أساسيا في أسواق الاقتراض طويلة الأجلlong term credit market (مع الإبقاء على أسعار الفائدة على الاقتراض قصير الأجل عند مستوى الصفر في المائة أو قريبا منه). دخول البنك المركزي في تلك الأسواق داعما عن طريق شراء السندات والأوراق المالية طويلة الأجل التي تصدرها المصارف التجارية والشركات (التي من شأنها تخفيض سعر الفائدة على هذا النوع من السندات)، يوفر قناة إضافية لتلك الشركات للحصول على ما تحتاج إليه من تمويل (خصوصا في ظل إحجام المصارف عن الإقراض) بتكلفة اقتراض منخفضة، كما في الاقتراض قصير الأجل، لكن مع ميزتين إضافيتين: أولا عدم الالتزام بسداد الدين على المدى القريب، وبالتالي إعطاء فرصة زمنية جيدة لتلك الشركات لتحقيق أرباح، من دون القلق حول حلول أي فترات استحقاق في القريب العاجل، كما هو الحال في الاقتراض قصير الأجل. ثانيا دعم ثقة المستثمر بالاقتصاد لما يراه من دعم مباشر من البنك المركزي وشرائه أي دين قد يتعثر صاحبه عن السداد.
تزايدت أهمية مصيدة السيولة كظاهرة اقتصادية واحتد الجدل حول فاعلية سياسات التيسير النقدي أخيرا، في ظل الأزمة المالية العالمية التي سقط فيها الاقتصاد العالمي، وما تمر به أوروبا الآن من أزمة الديون السيادية. فهذه الأزمات تطلبت تدخل البنوك المركزية الأهم في العالم الحديث، وهي: البنك الاتحادي الفيدرالي الأمريكي، البنك المركزي الأوروبي، وبنك إنجلترا، لتخفيض أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية كمحاولة للخروج من هذه الأزمات. إلا أن عمق هذه الأزمات أسفر عن ضعف فاعلية آلية سعر الفائدة الذي وصل إلى مستوى قريب جدا من الصفر في المائة، ما جعل مسلسل مصيدة السيولة في اليابان يلوح في أفق العالم الغربي، ولا سيما أن ثقة المستثمرين في تلك الاقتصادات كانت ضعيفة للغاية (خصوصا في أوروبا حاليا). وكما فعلت اليابان فعلت أمريكا وأوروبا. تم تفعيل سياسات التيسير النقدي بشكل حاد، خصوصا في الولايات المتحدة .. فهل نجحت هذه الآلية في إخراج تلك الدول مما تعانيه من أزمات؟
الآراء بشأن فاعلية سياسات التيسير النقدي ليست على اتفاق، فالمشككون فيها يستندون إلى نقطتين أساسيتين. أولا أن هذه السياسات لم تثبت نجاحا على أرض الواقع، وبناء عليه يجب البحث عن مخرج آخر، فاليابان ما زالت تقبع داخل مصيدة السيولة منذ تسعينيات القرن الماضي، على الرغم مما اتخذه وما زال يتخذه البنك المركزي الياباني من تيسيرات نقدية. حتى ما حققته الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من معدلات نمو إنما هي معدلات متواضعة جدا ليست كافية لحل ما تعانيه تلك الدول من مشكلات كبرى كمشكلة البطالة. ثانيا إن لسياسات التيسير النقدي من المساوئ، ما يجعل تطبيقها غير مجدِ إذا ما قورنت تلك السلبيات بما تحقق من إيجابيات كصعوبة إيجاد آلية يستطيع بواسطتها البنك المركزي التخلص من وضعه المالي كمقرض واسترداد قيمة ما اشتراه من سندات وما سيكون لذلك من تأثيرات عكسية في الاقتصاد في حينه (ما يسمى استراتيجية الخروج Exit Strategy). أما المؤيدون لسياسات التيسير النقدي فيرون أنها تمثل الدور الأهم والأساسي للبنوك المركزية حاليا للخروج مما تواجهه من مأزق. هذه السياسات هي أفضل ما يمكن القيام به للخروج من مصيدة السيولة وإعادة الثقة للمستثمرين التي تمثل المشكلة الأساسية فيما يعانيه العالم الغربي اليوم، خصوصا في ظل عجز الحكومات (متمثلة في وزارات المالية المنفصلة تماما عن البنوك المركزية) عن القيام بدور فاعل بسبب ما تعانيه من عجز هائل في ميزانياتها المالية وديون وصلت إلى أرقام قياسية.
الحقيقة أن لكل رأي ما يدعمه من وقائع، والوصول إلى رأي أكيد بهذا الشأن ما زال مبكرا، نظرا لحداثة سياسات التيسير النقدي نسبياً. والجدل سيبقى مفتوحا إلى أن يحسمه التاريخ الاقتصادي. لكن ما حسم أمره بالفعل هو أن مصيدة السيولة لم تعد مبدأ نظريا لم تثبت وجوده الأحداث، بل إن مصيدة السيولة أصبحت واقعا ملموسا أضاف عبئا جديدا إلى ما تحمله البنوك المركزية من أعباء يجب الحذر منها وأخذها في الاعتبار دائماً.