مركز البيضاء نموذج للتنمية (1 من 2)

كتبنا وتحدثنا كثيرا عن خطورة منهج وأسلوب التنمية الرعوية التي تعتمدعلى قطاع واحد يقوم بالتخطيط والتمويل والتنفيذ والإشراف والمتابعة والتقويم على حساب بقية القطاعات والأجهزة والمؤسسات والجمعيات والأفراد، وهو الأسلوب التنموي الذي أخذ به في المملكة خلال العقود التنموية التي انتهجت فيها الخطط الخمسية للدولة، وهو ما أدى إلى استمرار التضجر والاستياء من كل مواطن على الخدمات والبرامج والمشروعات التي تقدم له، والسبب، كما يقول خبراء التنمية، هو التغييب الكامل والمباشر وغير المباشر للمواطن في بناء منظومة التنمية التي تشمل كل مناحي الحياة من سياسات وبرامج ومشروعات بحيث بني الإنسان السعودي على ثقافة تلقي الخدمات دون المشاركة في مسؤولية إعدادها وتنفيذها وحمايتها وصيانتها، وأصبحت كل المشروعات والبرامج والخدمات التي تقدم من الحكومة حقا مكتسبا لكل مواطن دون تحمل أدنى مسؤولية لضمان بقائها واستمرارها وصيانتها.
مركز البيضاء في منطقة مكة المكرمة نموذج يحاول من خلال تنميته الخروج من مفهوم التنمية الرعوية إلى التنمية المتكاملة الأركان بحيث يشارك السكان المحليون في المركز مع مختلف قطاعات الدولة الحكومية والخاصة والمجتمع المدني في وضع رؤية تنموية لموقع البيضاء غير المنمى بحيث ترتكز التنمية فيه على معرفة الفرصة التنموية الموجودة التي يمكن تسخيرها لمصلحة سكان الموقع وبمشاركة مباشرة منهم في التفكير والإعداد والتخطيط والتنفيذ والإشراف والمتابعة وهو ما يتم حاليا بجهود مشتركة بين القطاعين الحكومي ممثلا في مجلس المنطقة وجميع الإدارات الحكومة والقطاع الخيري، أو ما نسميه مؤسسات المجتمع المدني ممثلة في مؤسسة الملك فيصل الخيرية التي تمثلها الأميرة هيفاء الفيصل صاحبة الفكرة والمبادرة والمتابعة الميدانية لهذا المشروع.
تتلخص فكرة المبادرة في اختيار موقع يعتبر وفقا لمعايير التنمية في حده الأدنى منها وفي الوقت نفسه يملك مقومات النمو والاستدامة من خلال وجود مستوطنة بشرية ربما تعتبر ضعيفة من خلال عدم توافر مقومات الحياة التي تساعد السكان المحليين على الاستقرار والنمو، ومن هنا جاء اختيار فريق الدراسة برئاسة الأميرة هيفاء الفيصل ومجموعة من الخبراء العالميين والمحليين لهذا المركز حتى يستطيعوا أن يقدموا من خلاله نموذجا لمفهوم التنمية المتكاملة والمتوازنة بالشراكة مع المواطنيين، أو ما يسميهم التنمويون بالسكان المحليين وإشراكهم في كل الخطوات التفكرية والتنفيذية للمشروع، وهو ما يعمل حاليا على تحقيقه، وكانت الخطوة الأولى بعد اتضاح الرؤية والأهداف هي الاستعانة بسكان الموقع لإنشاء مصدات أو حاضنات أو سدود لمياه الأمطار حتى تتم الاستفادة منها طوال العام وتكون قاعدة لانطلاق نموذج زراعي مرتبط بتربية الماشية بحيث يتحول مع الوقت ووفق الإمكانات المحلية إلى نواة لقاعدة اقتصادية تعتمد على تربية الماشية وما يرتبط بها من منتجات تتحول مع الوقت إلى صناعات مختلفة تعتمد على كل ما يمكن استغلاله واستثماره من الإنتاج الحيواني، وفي الوقت نفسه تكون داعمة لتغذية مكة المكرمة خلال المواسم ومنها الحج بما تحتاج إليه من أضاح سواء الأغنام أو الأبقار أو الجمال.
إن الفكرة التنموية التي تعمل عليها إمارة منطقة مكة المكرمة بالمشاركة مع مختلف القطاعات الحكومية والخاصة والجمعيات الخيرية وغيرها هي محاولة جادة لتقديم نموذج تنموي للمواقع أو المراكز الأقل نصيبا في التنمية والتي لا يمكن وضعها ضمن الأولويات الأولى للتنمية الوطنية، وفي الوقت نفسه الأمر يتطلب التركيز عليها لضمان تحقيق الاستقرار السكاني والحد من الهجرة من المدن والقرى المجاورة للمدن الكبيرة وخلق مشكلتين تنمويتين تعانيهما الكثير من دول العالم، وهما أن المنتقلين أو المهاجرين من قراهم ومدنهم لا يجدون الحد الأدنى من الخدمات والمرافق والسكن والمعيشة في المواقع المنتقلين إليها، وهذه المواقع تبدأ تعاني مشكلة التكدس السكاني وما يصاحبه من مشكلات اجتماعية واقتصادية ونفسية وأمنية وبيئية يحذر منها خبراء التنمية، ويرون أن الخير هو في تقديم نماذج تنموية حتى وإن كانت بسيطة إلا أنها تحقق الاستقرار والسعادة للمستهدفين منها.
إن التجربة التنموية لمركز البيضاء وإن كانت تجربة وليدة ولا يمكن الحكم على نجاحها حاليا إلا أن هذا التوجه التنموي يعتبر نقلة نوعية في ثقافة وطريقة ومنهج التنمية في المملكة ويمكن البناء عليها والاستفادة منها لأنها تمثل التكامل التنموي بين بناء الإنسان وتنمية المكان وهو ما بنيت عليه استراتيجية تنمية مكة المكرمة. وللحديث عن التجربة ورصدها مقال قادم - إن شاء الله. وفق الله الجهود التي تعمل من أجل وطن سعودي الانتماء، عربي اللسان، إسلامي المعتقد وعالمي الطموح.

وقفة التأمل:

«رمضان يا خير الشهور تحية
تفضي عليك من الجلال جلالا
خذها يفوح عبيرها من مؤمن
يبغي لك التعظيم والإجلالا
رمضان عدت وهذه أوطاننا
عم الفساد بها وزاد وطالا
ضاعت مقاييس الفضيلة بيننا
وتبدلت أحوالنا أوحالا
فالحق أجلى في البلاد مضيعا
والنذل أمسى سيدا مفضالا»

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي