صُنع في السعودية .. مركبات وقطع غيار ينبع
''كونستانتين فاشيرون''، ''باتيك فيلب''، ''رولكس''. جميعها علامات تجارية مسجلة لساعات يدوية سويسرية. تتميز الساعات السويسرية بفخامتها المتناهية، وجودتها العالية، وسعرها المرتفع، واستهدافها للشريحة العليا من الطبقة المتوسطة فما فوق من عملاء سوق الساعات العالمي. تمثل هذه العلامات التجارية معالم قطاع صناعة الساعات اليدوية السويسري الذي استطاع أن يزيح منافسه البريطاني من مقعد الريادة الصناعية ويستديم عليه حتى اليوم في قصة إنجاز من الأهمية مدارستها. تتزامن مدارسة القصة بنظرة لقطاع صناعة السيارات السعودي وما يحتاج إليه من صناعات قطع غيار المركبات ليصبح قطاعا قائما على ضفاف البحر الأحمر، بعون الله تعالى.
كانت بريطانيا رائدة في صناعة الساعات اليدوية خلال القرن الثامن عشر الميلادي من خلال إنتاجها قرابة نصف إنتاج العالم من الساعات اليدوية. عزيت أسباب هذه الريادة العالمية إلى أربعة عوامل: انخفاض تكلفة العمالة المستخدمة في إنتاج الساعات اليدوية، وظهور تجمع صناعي لصناعة الساعات اليدوية، وزيادة الطلب الداخلي على الساعات اليدوية البريطانية، وأخيرا، اقتناء ورش الساعات البريطانية لمواد أولية غير معروفة في باقي أنحاء العالم، بسبب قدرة ورش تصنيع الساعات اليدوية البريطانية على اكتشاف طريقة جديدة لصهر الحديد.
شكلت هذه العوامل الرئيسة الأربعة في مجملها ميزة تنافسية أسهمت في استدامة صناعة الساعات اليدوية البريطانية حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي عندما بدأت هذه الميزة التنافسية بالتلاشي لسببين. الأول، تقاعس ورش تصنيع الساعات اليدوية البريطانية عن الاستمرار في إجراء الأبحاث والتطوير ذات العلاقة بتطوير أساليب وآليات تصنيع الساعات اليدوية. والثاني، الحروب البريطانية المتعاقبة في تلك الفترة وانعكاساتها السلبية على الاقتصاد البريطاني.
شكل هذان السببين فرصة ذهبية لقطاعات صناعة الساعات اليدوية في الاقتصادات الأخرى للتقدم على قطاع صناعة الساعات اليدوية البريطاني في الريادة العالمية. من هذه القطاعات، قطاع صناعة الساعات اليدوية السويسري، ومثيله الياباني. فتسابق كلا القطاعين على التقدم على قطاع صناعة الساعات اليدوية البريطاني من خلال دراسة عوامل نجاح قطاع صناعة الساعات اليدوية الأربعة، التكلفة، التجمع الصناعي، مواد أولية فريدة، والطلب، ومحاولة محاكاتها بما يتناسب والاقتصاد السويسري والياباني، على التوالي.
نجح قطاع صناعة الساعات اليدوية السويسري في محاكاة هذه العوامل الأربعة بشكل أفضل من قطاع صناعة الساعات اليدوية الياباني إبان تلك الحقبة الزمنية في تجربة جديرة بالتأمل لما فيها من الدروس والعبر في النهوض بقطاعات الاقتصاد الوطني على المدى البعيد واستدامتها. يعود تاريخ قطاع صناعة الساعات اليدوية السويسري إلى منتصف القرن السادس عشر الميلادي عندما انشقت الكنيسة البروتستانتية عن الكنيسة الكاثوليكية. سبب هذا الانشقاق نزوح أتباع الكنيسة البروتستانتية من إيطاليا، مركز الكنيسة الكاثوليكية، وانتشارهم في مناطق أوروبا.
استوطنت مجموعة من هؤلاء النازحين سويسرا المجاورة لإيطاليا، ولتبدأ مع هذا الاستيطان رحلة اقتصادية أخرجت مجموعة من الأنشطة الاقتصادية ذات الريادة العالمية التي نشهدها اليوم كالخدمات المالية والساعات اليدوية.
بدأ قطاع صناعة الساعات اليدوية السويسري في دراسة تجربة قطاع الساعات البريطاني للتعرف على مكونات الميزة التنافسية لقطاع الساعات البريطاني الأربعة، تكلفة عمالية منخفضة، تجمع صناعي مكتمل، طلب داخلي مرتفع، ومواد أولية فريدة، والبدء في محاكاتها بما يتناسب وإمكاناته.
حاكى العامل الأول، تكلفة عمالية منخفضة، عن طريق التعاقد مع عمال ورش الصناعات النحاسية المنتشرين في منطقة جبال الألب الفرنسية والإيطالية. وحاكى العامل الثاني، تجمعا صناعيا مكتملا، عن طريق مشاركة قطاع الصناعات الحديدية الإيطالي والفرنسي في دمج ورش الصناعات النحاسية في منطقة جبال الألب ضمن مجمعات صناعية متكاملة. وحاكى العامل الثالث، مواد أولية فريدة، عن طريق التواصل مع مراكز الأبحاث والتطوير الفرنسية والإيطالية للتعرف على أساليب وآليات تصنيع الساعات اليدوية. وحاكى العامل الرابع، طلبا داخليا مرتفعا، عن طريق إنشاء أسواق ساعات يدوية متنوعة في الدول الأوروبية غير المعتادة على اقتناء الساعات اليدوية. أنشئت هذه الأسواق لبيع ساعات يدوية سويسرية ذات جودة متنوعة لتلبية إمكانات جميع الطبقات الاجتماعية، عوضا عن الطبقة الغنية كمثيله البريطاني.
تعدى برنامج المحاكاة هذه العوامل الأربعة أعلاه ليضيف ميزة التصميم للساعات اليدوية السويسرية. استفاد قطاع الساعات اليدوية السويسري من الحروب البريطانية في تحقيق هذا الهدف. كانت السفن البريطانية تحمل صادرات الساعات اليدوية إلى المستعمرات البريطانية إبان فترة الحروب دون تغليفها. والسبب في ذلك انخراط عمال التغليف في الموانئ البريطانية في صفوف الجيش البريطاني. فحرص قطاع الصناعات اليدوية السويسري على إرسال مجموعة من المراسلين على متن هذه السفن للتعرف على أحدث التصاميم ثم نقلها إلى ورش تصنيع الساعات اليدوية السويسرية.
شكلت هذه العوامل الرئيسة الأربعة إضافة إلى عامل التصميم في مجملها ميزة تنافسية ميزت صناعة الساعات اليدوية السويسرية عن مثيلتها البريطانية. أسهمت هذه الميزة التنافسية في ريادة الساعات اليدوية السويسرية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين الميلادي. أعاد التاريخ نفسه منتصف القرن العشرين الميلادي عندما احتدت المنافسة بين الساعات اليدوية السويسرية واليابانية. السبب في ذلك نجاح قطاع صناعة الساعات اليدوية الياباني في استخدام مادة الكوارتز في صناعة الساعات اليدوية اليابانية.
خلف الساعة السويسرية حكاية كفاح وعزيمة وإصرار. ننظر إلى مدينة ينبع الصناعية وبدايات ظهور قطاع صناعة سيارات سعودية وما يحتاج إليه من صناعات قطع غيار المركبات في وقت تدخل قرابة 300 ألف سيارة جديدة أسواق المملكة سنويا بقيمة إجمالية تقارب 35 مليار ريال سعودي.