عند العرب..السلطة «غاية» لا «وسيلة» لتحقيق التنمية

منذ تاريخ 18 كانون الأول (ديسمبر )2010، والعرب يعيشون في قلاقل واضطرابات داخلية لم تهدأ، بعضها أدى إلى اندلاع ثورات، بعض هذه الثورات أسقطت أنظمة، وأقامت أنظمة جديدة، لكنها غير قادرة حتى الآن على ضبط التوازن وبسط الأمن وتنمية الإنسان والوطن.
إن التنمية كما يعرفها تقرير التنمية البشرية 2013 (نهضة الجنوب: تقدم بشري في عالم متنوع)، الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، هي: ''تغيير في المجتمع لتحقيق رفاه الفرد من جيل إلى جيل، من أجل توسيع خياراته في الصحة والتعليم والدخل، وتوسيع حرياته وفرص مشاركته الفاعلة في المجتمع''.
للأسف، ما زلنا بعد ثلاثة أعوام منذ انطلاق ما يسمى ''الربيع العربي'' نرى مشاهد البؤس والفقر والمعاناة وفوق ذلك مذابح وتفجيرات واغتيالات وتصفية خصوم وتفرقة طائفية، والفرق الوحيد بين مرحلة ما ''قبل'' الربيع ومرحلة ما ''بعد'' الربيع، أن المرحلة الأولى كانت بؤساً مع توافر الأمن، فيما المرحلة الأخرى كانت بؤساً مع الانفلات الأمني!
ولأنني أتفهم تماماً أن بعض الشعوب العربية ثارت ضد الديكتاتورية والفساد، وهذا حقها في تقرير مصيرها، فإنني أحاول أن أفهم سلوك بعض الحركات السياسية (الانتهازية) التي استغلت الوضع الجديد، وسعت من خلال ''الديمقراطية'' المبتسرة (غير الناضجة) لاستعادة أحلام قديمة، واعتلاء سدة الحكم بعد سنوات من الإقصاء والتهميش.
بعض هذه الحركات السياسية (الانتهازية) ليس لديها أي خطة لتحقيق التنمية (برنامج تنموي)، تستطيع من خلاله أن تشبع بطون الفقراء، وتشغل أيدي الشباب، وتداوي أجساد المرضى، وتدرس العقول الخاوية، كانت هذه الحركات (الانتهازية) توقد نار الثورة عن ُبعد، لتمهد لنفسها السبيل إلى السلطة، فلم تكن تسعى ولن تسعى إلى أي تنمية للبلد ومواطنيه، كانت غايتها القصوى، الحكم ولا شيء سوى الحكم، ما لا يجعلها مختلفة عن الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب منذ انطلاق ''الربيع العربي''!.
إن الحرمان ''الديمقراطي'' جعل بعض الحركات والتيارات السياسية العربية تستعجل ''السلطة'' حتى إن كانت تدرك أنها لا تملك أي برامج تنموية، وهذا ما ورطنا في ترديد مصطلح ''الربيع العربي''، لأننا دائماً نتلقف الأفكار والمفاهيم دون تمحيص!
فقد كذبوا علينا وقالوا: ''ربيع عربي''، وما خبرت الربيع إلا يجلب معه الورد والأزهار لا القتل والدمار، فمصطلح ''الربيع العربي'' هو مصطلح صاغه الأمريكي الدكتور مارك لينش، أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية، في جامعة جورج واشنطن، ورئيس معهد دراسات الشرق الأوسط في الجامعة ذاتها، حيث استخدم الدكتور لينش المصطلح (الربيع العربي) في مقال له نشر في مجلة ''فورن بوليسي'' في كانون الثاني (يناير) 2011، ثم استخدمه السياسيون الأمريكيون بعد ذلك، وانتشر عبر ''الجزيرة'' وبقية وسائل الإعلام العربية.
المجلة معروف أنها تمهد للأفكار والأطر الأمريكية قبل أن تدخل حيز التنفيذ، ومملوكة لشركة ''واشنطن بوست''، وأسست عام 1970 على يد اثنين أحدهما صامويل هنتنغتون صاحب نظرية ''صراع الحضارات'' الذي رأى أن صراع العالم صراع حضاري، وقسم العالم إلى تسع حضارات (الغربية، الأرثوذكسية، الإسلامية، الإفريقية، اللاتينية، الصينية، الهندوسية، البوذية، واليابانية)، ورأى أن هذه الحضارات قد تتعايش مع بعضها عدا الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية اللتين لا بد أن تتصارعا.
لقد طالب تقرير التنمية البشرية 2013 البلدان النامية - ومنها البلدان العربية - أن تركز في سياستها العامة للأعوام القليلة المقبلة على أربع أولويات رئيسة:
• تحقيق المساواة بين المواطنين والعدالة الاجتماعية.
• إعلاء الصوت وتمكين المواطنين من المشاركة في اتخاذ القرارات.
• مواجهة الضغوط البيئية.
• معالجة التغيرات السكانية (الديمغرافية).
ولهذا، لا أتصور أياً من الحركات السياسية التي اعتلت السلطة في دول ''الربيع''، قادرة بشكل تام على استيفاء هذه المطالب التي ذكرها ''برنامج الأمم المتحدة الإنمائي'' في تقريره (تقرير التنمية البشرية 2013) أو ذكرتها منظمات دولية أخرى.
فالمشكلة أن بعض هذه الحركات تعمل وفق منظور ديني (أيديولوجي) ضيق، وأول ما تفعله إذا تولت السلطة، التدخل في الحريات الشخصية، ومحاولة فرض مظهر معين على الرجال والنساء، إضافة إلى محاربة الإبداع والفنون الجميلة، وقمع الأطراف الأخرى المختلفة دينياً أو مذهبياً، أي أنها تستخدم السلطة ليس من أجل التفكير في حلول مبتكرة تهم المواطن العربي، وتخرجه من ثالوث التخلف: الجهل والمرض والفقر، إنما تستخدم السلطة للتمسك بمزيد من السلطة، فهي تتحمس كثيراً إلى الوصول إلى سدة الحكم، ليس لتحقيق غاية التنمية، إنما لأنها تعتبر أن الحكم ذاته، هو الغاية.
هذه هي المشكلة، السياسيون في دول الجنوب (البلدان النامية)، خاصة غير العربية، يرون أن الوصول إلى السلطة هو ''وسيلة'' لتحقيق ''غاية'' تنمية البلد، والارتقاء بخدماته الأساسية كالتعليم والصحة والمرافق العامة، وتخفيض معدلات البطالة وإنعاش الاقتصاد، أما السياسي العربي، فإن ''السلطة'' بالنسبة له هي ''وسيلة'' وهي ''غاية''، بل إنها ''الغاية'' المطلقة، خاصة عندما نقلب تاريخ العرب المملوء بالصراعات والمذابح!
للأسف مرة أخرى، السلطة عند العرب ''غاية''، وليست ''وسيلة'' لتحقيق التنمية بكل مستوياتها، وهذا ما قادنا إلى الدخول في دوامة ''الفوضى الخلاقة''، تلك الفوضى التي أعيد تسويقها إلى عالمنا العربي بـ ''ماركة'' جديدة اسمها ''الربيع العربي''!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي