لكيلا تكون الجنسية معيارا للرواتب
من أسوأ ممارسات الموارد البشرية في العالم العربي، أن يتم إعداد سلالم رواتب مع حزم مزايا وتعويضات على أساس ''الجنسية''!
إذ نجد أن بعض الشركات الخاصة العاملة في قطاعات النفط والغاز والمعادن - لديها سلالم رواتب متعددة لغير العرب، وفق القارات أو البلدان، وسلم وحيد وهزيل للمواطنين!
هل يعقل أن توظف الشركة اثنين يتماثلان في الخبرة والمؤهلات في الوظيفة نفسها، فتعطي صاحب الجنسية ''أ'' مبلغ عشرة آلاف ريال راتبا أساسيا مع مزايا أخرى، وتعطي الآخر صاحب الجنسية ''ب'' 5000 ريال فقط، لا لشيء إلا لاختلاف ألوان جوازاتهم!
في شركاتنا العربية، فإن سلالم رواتب الأجانب عادة ما تبدأ أدنى مرتبة فيها من أعلى مرتبة في سلالم رواتب المواطنين، والأدهى أن تلك الشركات - الكريمة على غير أبنائها - تصرف رواتب الخبراء الأجانب كما يريدون أي بعملاتهم المحلية مع تحملها لفوارق سعر الصرف من العملة الوطنية إلى العملة الأجنبية!
للأسف، إن هذا هو الواقع الذي ينبثق من ''عقدة الخواجة''، ويعتمد على حجة أنه ''إذا أردت أن تستقطب كفاءات أجنبية، فلا بد أن تقدم لهم رواتب مجزية، تتوازى مع تكاليف المعيشة في بلدانهم''.
حسنا، نحن ندرك تماما أن تكاليف المعيشة في أمريكا أو أوروبا أعلى بكثير منها في آسيا أو الدول العربية، لكن هذا وحده لا يبرر أن ''نفصل'' سلالم رواتب تلائم الأوضاع الاقتصادية للأجانب، فلو كان هذا المنطق صحيحا، لكان من الأولى أن نفصل سلالم رواتب تلائم الأوضاع الاقتصادية للمواطنين، وتراعي ارتفاع تكاليف المعيشة، التي يتحملونها عاما بعد عام.
قبل سنوات قليلة، كشف استطلاع للرأي أجراه موقع التوظيف Bayt.com أن 66.4 في المائة من المشاركين في الاستطلاع أكدوا أن شركاتهم لديها سياسات أجور تستند إلى ''الجنسية''، فيما نفى 21.3 في المائة من المشاركين وجود مثل تلك السياسات، مقابل 12.3 في المائة ممن قالوا بعدم معرفتهم بالأمر (استبيان الحزم الخاصة للمهنيين الأجانب في الشرق الأوسط - عام 2010). بل إن 35 في المائة من المشاركين في الاستطلاع قد أكدوا أن شركاتهم تعطي حزما خاصة packages للمهنيين الأجانب، فيما أوضح 44.9 في المائة أن شركاتهم لا تفعل ذلك، مقابل 20.2 في المائة ممن لا يعرفون عن الأمر.
وحين طلب الاستطلاع تحديد نوعية المزايا الخاصة التي يتلقاها الأجانب في الشركات العاملة في منطقتنا، كانت إجابات المشاركين موزعة كالتالي:
- 21.6 في المائة رواتب أعلى.
- 4.7 في المائة بدلات سكن خاصة.
- 3.7 في المائة توفير التعليم لأبناء الموظف (الأجنبي).
- 0.3 في المائة عضوية أندية.
- 7.5 في المائة تذاكر سفر لزيارة البلد الأم.
- 10.3 في المائة تدريب وتطوير أفضل.
- 51.8 في المائة أغلب أو كل ما ذكر سابقا.
وعندما نتناول هذه الظاهرة عربيا، نجد في المقابل أن كثيرا من قوانين العمل في العالم - خاصة البلدان المتقدمة التي يأتي منها الخبراء الأجانب - تحظر الممارسات ''العنصرية'' للموارد البشرية، ومن ذلك صرف رواتب بناء على ''جنسية'' الموظفين، حيث يأتي هذا في سياق حظر الممارسات العنصرية، التي تقوم على أساس الدين أو المذهب أو اللون أو الجنس وغير ذلك من المعايير التي لا علاقة لها بالوظيفة نفسها.
أما على مستوى قوانين العمل العربية، فقد بحثت حتى أضناني البحث، ولم أجد أي نصوص قانونية تحظر ''عنصرية'' الرواتب، أو تمنع اعتبار ''الجنسية'' معيارا لصرف رواتب الموظفين أو تقديم مزايا خاصة لهم، كبدلات السكن النقدي أو السكن العيني أو التذاكر أو تحمل الرسوم الدراسية للأبناء!
علما أن السعودية – من خلال وزارة العمل – قد دشنت برنامجا في بداية أيلول (سبتمبر) الماضي هو ''برنامج حماية الأجور''، لكنه لا يتدخل في تحديد مقدار الرواتب أو يتحقق من أيها قد تحدد على أساس ''الجنسية''، فهو يختص برصد عمليات صرف الأجور لجميع موظفي القطاع الخاص من السعوديين والأجانب، للتحقق من مدى التزام الشركات بدفع الأجور في الوقت وبالمقدار المتفق عليهما.
لذلك، أدعو البلدان العربية أن تحظر بصورة قانونية واضحة وصريحة كل أشكال التمييز العنصري في ممارسات وسياسات الموارد البشرية، وفي مقدمتها ممارسات وسياسات الأجور القائمة على ''الجنسية''.
كما أدعو شركاتنا العربية، خاصة تلك العاملة في استخراج ثرواتنا من بواطن الأرض، أن تتخلى تماما عن تلك الممارسات والسياسات، وأن تعيد تقييم الوظائف (تحديد مقدار كل وظيفة) لبناء سلالم رواتب عادلة وتنافسية يتساوى أمامها المواطنون والأجانب، ولا تفرق بينهم إلا في مدى استيفائهم لمتطلبات الوظيفة، مع يقيني أن هناك كفاءات وطنية تتفوق على الكفاءات الأجنبية الحالية بمراحل، لكن ''عقدة الخواجة'' تحاول إعاقتها!.
ربما يقول قائل إن هذا ''مستحيل''، ولن نتمكن من استقطاب تلك الكفاءات الأجنبية (الفذة!).. وسأقول إن ذلك ممكن، خاصة أن معدلات البطالة في أمريكا وأوروبا ليست منخفضة – كما يعتقد البعض – ومن لا يريد من أولئك الخبراء الأجانب القدوم لمنطقتنا العربية الواعدة، فأنصحه أن يبقى في بلده، لعله يجد وظيفة هناك .. ولو بربع المزايا التي يجدها هنا! .