الفرنسية التي أسَرَتْنِي
سيارة الأجرة التي أقلتني من الفندق إلى برج إيفل كانت تقودها فتاة فرنسية تتحدث الإنجليزية بلكنةٍ أقرب منها للحن رومانسي من كونها لغة معاصرة. لم يجذبني فقط جمالها البرونزي وشعرها الذي يهطل كالليل، بل أيضاً ذكاؤها الحاد ومعرفتها بالشأن العام العالمي.
تحدَثَتْ بفخر عن إيفاد بلدها وزراء إلى النيجر لاصطحاب الرهائن الفرنسيين الأربعة الذين تم اختطافهم قبل نحو ثلاث سنوات من قبل مجموعة إرهابية.
سألتها عن رأيها في التقارير التي نشرتها صحيفة "لوموند" الفرنسية عن تسريبات متعاقد الاستخبارات الأمريكية السابق، إدوارد سنودن، وكيف قامت الولايات المتحدة بالتجسس على 70 مليون مكالمة هاتفية فرنسية خلال شهر واحد.
أجابت بسخرية: "ما هي المعلومات السرية التي يحرص الأمريكان على الحصول عليها؟ نحن الفرنسيين لا نتحدث إلا عن الحب وعصير الفاكهة والموسيقى".
وصلت إلى ساحة برج إيفل، ودعتني بابتسامتها الساحرة وهي تحذرني من المصورين الذين يتهافتون على السياح للحصول على أكبر قدر من المال، لقاء صورة باهتة في إطار قديم.
هل هي الفرنسية التي أسَرتني؟ لا لم تكن هي.
بعد جولة في أكثر معالم باريس شهرة وجاذبية، قررت الاسترخاء في أحد المقاهي القريبة، أراقب رتلا من الفنانين البوهيميين وهم يرسمون وجوه السياح العابرين، كل منهم يبحث عن وجه جديد في مكان ما وبألوان مختلفة!
لمحت نادلة المقهى وهي تتهادى نحوي. لماذا يتشتت تركيز الرجل عندما يرى امرأة جميلة؟ للوهلة الأولى تذكرت مقولة الشاعر الفرنسي فيكتور هوجو: "الجمال يعلم الناس الحق.. ويهذب نفوسهم.. ويطبع قلوبهم بطابع الحب والشعور.. من يحب الجمال يرى النور".
أي حق وأي شعور وأي نفوس وأي نور يا سيد هوجو؟ هذه المرأة التي تمشي الهوينى رشاقتها حق.. جاذبيتها تسلب كل شعور.. أناقتها تحبس الأنفاس.. وقوامها يهذب النفوس.
سألتها عن سر سماعة الآي فون في أذنها. علمت أنها في السنة الأخيرة في الجامعة وتستمع لإعادة محاضرة، بينما تعمل في المساء لمساعدة نفسها على مصاريف الدراسة.
انتهيت من شرب الكابوتشينو.. علي الذهاب إلى محطتي القادمة. قالت بلهجة ركيكة ما معناه: "قم بزيارتنا مرة أخرى مسيو".
هل كانت هذه الفرنسية هي التي أسَرَتْنِي؟ لا لم تكن هي.
محطتي التالية مستشفى روبرت دوبريه لعلاج الأطفال المصابين بالسرطان ومستشفى نيكر للأطفال الذي يعد مركزا طبيا متخصصا في الأمراض النادرة والمستعصية ويقع في الحي الخامس عشر في باريس.
أحرص عند سفري إلى أي بلد في العالم على زيارة مستشفيات الأطفال وخاصة المصابين بالسرطان. لست في حاجة هنا إلى إبداء الأسباب، فهذا أمر يخصني ولست في حاجة إلى تسويقه.
قرأت منذ فترة أن اللاعب الإنجليزى ديفيد بيكهام تبرع براتبه عن تعاقده لمدة ستة أشهر لصالح مستشفى نيكر للأطفال ومركز اجتماعي آخر في الحي نفسه. يا ترى، كم لاعب كرة عربي ساهم ولو بالقليل لمساعدة أحد المراكز الصحية في الوطن العربي!
وصلت إلى مستشفى الأطفال. في إحدى الردهات المؤدية لغرف المرضى الصغار تجلس سيدة تبدو أنها تعدت الـ 90 خريفاً، اتخذت التجاعيد من وجهها درباً عميقاً يروي القصص الإنسانية.
تجلس ميري لويس مع الأطفال.. تروي لهم الحكايات.. يضحكون.. فتضحك معهم.. يلعبون حولها.. فتلوح بيدها المتعبة وكأنها تلعب معهم، ثم تغادر المكان وفي عينيها الغائرتين بكاء طفل صامت.
علمت لاحقاً أن ميري لويس تحرص على زيارة الأطفال كلما سنحت لها فرصة.. تحملها سنواتها التسعون بثقل حائط أسمنتي، ولكن ابتسامتها البيضاء لا تفارقها.
ميري لويس التسعينية.. هي الفرنسية التي أسَرَتْنِي.