ضياع القيم وغسل العقول بمفاهيم العولمة واختراقها بآلة المعلوماتية
تعدّ القيم واحدة من القضايا التي دار حولها جدل كبير نتيجة التغيرات والمستجدات في العصر الحديث، ولا سيما مع تنامي موجات العولمة وما رافقها من تطورات هائلة في مجال المعلوماتية، ووسائل الإعلام وقنوات التواصل. وتشير بعض الدراسات إلى أن الثقافة بوجه عام – بمفهوم العلوم الاجتماعية الإنسانية الواسع للكلمة - تتعرض أكثر فأكثر لهزات كبرى، وهي عرضة للتآكل والمحو مع تزايد موجات العولمة والمعلوماتية، باعتبارهما أبرز ما شهده العالم المعاصر من تغيرات ومستجدات.
ويتأثر مجال القيم بالمستجدات والتغيرات العالمية، وكان من نتائج هذا التأثير أن انحسرت قيم وظهرت قيم جديدة, فانعكس ذلك كله على التنظيم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للإنسان وعلى أساليب حياته. فنشأ شباب اليوم في عصر تعرضت فيه المجتمعات المحافظة للتغيرات العالمية في ظل الحضارة المعاصرة والتقدم العلمي والتكنولوجي الذي يميز الحياة ووسائلها ومتطلباتها.
وتلعب الأسر والمؤسسات الأكاديمية والتربوية في العالم العربي دوراً مهماً باعتبارها أحد التنظيمات الفكرية والثقافية والاجتماعية الأساسية، فبقدر ما تستطيع هذه الجامعات أن تعلم وتربي الإنسان على استخدام الطريقة العلمية في حل المشكلات واتخاذ القرارات، والتكيف مع المستجدات، والتمكن من الاختيار والانتقاء من البدائل العديدة التي تظهر في ظل الحداثة والعولمة والتقدم في وسائل الإعلام بقدر ما يتقدم المجتمع ويتطور.
الدكتور ماجد الزيودي، الباحث الأردني وعضو هيئة التدريس في جامعة طيبة في المدينة المنورة، أحد الباحثين الذين تطرقوا في أبحاثهم وأطروحاتهم لدراسة التأثيرات المعاصرة ومنها الإعلام والتقدم في وسائل التواصل الحديثة، وكتابه الشباب ومنظومة القيم لديهم، حيث استأثرت هذه القضايا الاجتماعية، خاصة ملامح التغيرات المعاصرة كالعولمة وثورة المعلومات وتكنولوجيا الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وأثرها في قيم الشباب في المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية على حيز واسع من اهتماماته. ويؤكد الزيودي لـ ''الاقتصادية '' أهمية النسق القيمي السائد مشيرا إلى أنه يعد بمثابة أحد رموز المجتمع وصورة في عقول أفراده، معتبرا إياه بمثابة الإطار المرجعي الذي يوصل العقل الاجتماعي إلى غاياته وأهدافه وسط التقدم في المجال الإعلامي والتغير المستمر على كافة الأصعدة.
ويرى الدكتور الزيودي أن القيم تعد واحدة من القضايا التي دار حولها جدل كبير نتيجة التغيرات والمستجدات في العصر الحديث، ولا سيما مع تنامي موجات العولمة وما رافقها من تطورات هائلة في مجال المعلوماتية وما أحدثه ذلك من تأثير في النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع بشكل عام والنسق القيمي بشكل خاص.
وقال الزيودي ''في ظل التغيرات العالمية المعاصرة، يلاحظ تراجع دور العملية الثقافية – الاجتماعية في المجتمعات التقليدية والنامية. تلك العملية التي كانت الأكثر عراقة وتأثيراً في تطور وإدارة هذه المجتمعات، وذلك بسبب الاختراق الكاسح للعمليات الاقتصادية والإعلامية والثقافية. حيث بات واضحاً أن الاختراق الثقافي، خاصة في ظل العولمة بآلياتها المعاصرة، يعمل على تهديد منظومة القيم الأصلية، ويشكل نوعاً من الازدواجية الثقافية التي تجتمع فيها تناقضات الأصالة والمعاصرة. وتابع بقوله: لقد أكد كثير من الباحثين أن التغيرات الاجتماعية والثقافية المتسارعة اليوم تجعل الإنسان يعيش صدمة ثقافية قيمية بالغة الخطورة والأهمية. وهي التغيرات التي تضع الشباب في مواجهة قيم جديدة غير مألوفة يتعين عليه أن يتمثلها، وذلك يؤدي إلى إحداث خلل في تكيف الشباب وانهيارهم في مواجهة قيم جديدة تتعلق بغزو الفضاء والأقمار الصناعية وثورة الحاسبات. وأشار الزيودي إلى أن الاتصال الثقافي له علاقة بالتغير في التوجهات الشبابية، مؤكدا أن بؤرة بناء الشخصية تكمن في القيم التي تتغلغل في أعماق الفرد وجوهره، وذاته، وعقليته. ورغم أنها تكمن في الأعماق، إلا أنها قد تتعرض للتغيير الاجتماعي، باعتباره ضرورة لكل المجتمعات. فعوامل التأثير والتغيير تؤثر في المجتمع من داخله، ومن خارجه. ولا بد أن يستجيب لهذا التغيير، سواء كانت استجابته سريعة أم بطيئة. ففي هذا العصر المتزاحم بالتغيرات العالمية المعاصرة نجد أنفسنا بصدد معارك كبرى، قيمية وأيديولوجية وسياسية واقتصادية ثقافية، من الصعب التنبؤ بنتائجها النهائية. لأن المسألة ستتوقف على قدرة الاتجاه المضاد على مواجهته والانتقال من القيم الروحية إلى القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية، والانتقال من المعرفة إلى الحداثة، ومن الحداثة إلى ما بعد الحداثة.
وأردف الزيودي بقوله: تتحدث الأدبيات التربوية عن تغيرات واسعة وكبيرة في البنى الاجتماعية للكثير من المجتمعات الإنسانية – منها المجتمع العربي – حيث إن التغيرات العالمية التي عاشها العالم المعاصر،عكست نفسها بصورة أو بأخرى على هذه المجتمعات، مما أحدث نوعاً من التغيير والخلخلة في هذه المجتمعات. كذلك عملت هذه التحولات إلى إضعاف بعض الأدوار التي كانت تقوم بها الأسرة في عملية التنشئة، وقيام مؤسسات جديدة للتنشئة تقوم بهذا الدور استطاعت اجتذاب الأجيال الجديدة لها بما تحتويه من جاذبية وإثارة وتشويق، كالمحطات الفضائية، والإنترنت، والأقراص المدمجة (CD) وغيرها، حيث تبث هذه الوسائل على مدار الساعة ملايين الصور والرموز وبما تحتويه من توجيهات سلوكية وقيم.
وفيما يتعلق بأثر التقنيات الحديثة على القيم لدى الشباب، أوضح الزيودي أن معظم هذه التقنيات مستوردة، وتعتمد على مضامين تنتمي للثقافة الغربية، كما تفيض بالعنف وتعلي من شأن القوة، وتعزز قيم الاستهلاك والروح الفردية، التي قد لا تتفق وأسس ومقومات الثقافة العربية والإسلامية، هذا إضافة إلى تأثيرها في جوانب التفاعل بين الآباء والأبناء داخل نطاق الأسرة وذلك نتيجة جلوسهم المستمر أمام الشاشة لساعات طويلة. وتابع الزيودي: وثمة تراجع دور الأسرة في التنشئة لصالح الإعلام والتقنيات الحديثة كالفضائيات، والحاسوب، وشبكة الإنترنت. كما أصبح الصغار هم المرجعية للكبار فيما يتعلق بالتعامل مع التقنيات الحديثة كالحاسوب، والإنترنت، حيث غالباً ما يرجع الكبار للصغار في استشارتهم وطلب مساعدتهم في التعامل مع هذه التقنيات. وسيطرت الفردية والروح الأنانية على سلوك الأفراد، حيث تتعاظم مصروفات الأبناء الترفيهية على حساب ميزانية الأسرة (شراء الهواتف الخلوية وأجور مكالماتها، وفواتير الاتصال بشبكة الإنترنت).
وأضاف أن هناك تراجعا في معدلات التفاعل الأسري وميل الأبناء للعزلة (الانطواء على الذات) بسبب انشغالهم في متابعة برامج الفضائيات وأجهزة الحاسوب والإنترنت، وتحول النظرة للمرأة وقيمتها في المجتمع، حيث يظهرها الإعلام كسلعة وكموضوع للجنس والإثارة. تزايد شكوى الأهل من ارتفاع معدلات سهر الأبناء سواء في مشاهدة المحطات الفضائية، أو الجلوس أمام شاشات الحاسوب والإنترنت لساعات طويلة.
وذكر أن الفضائيات تساهم في توحيد أذواق الشباب وتنميطها، ولا سيما في اللباس، قصة الشعر، الأغاني, المأكل وغير ذلك.
وبين الزيودي قائلا : إن الثقافة من بين العناصر التي تأثرت بالتغيرات العالمية المعاصرة، وتتسم التأثيرات الثقافية – في هذا العصر – بالانتقال الحر للأفكار والمعلومات عن طريق مساهمة المحطات الفضائية في تشكيل وعي الجماهير، مما أسهم في انفتاح الثقافات العالمية المختلفة، وتأثر بعضها بالبعض الآخر، وتسهيل الاستفادة من التجارب الثقافية العالمية، وشيوع مفاهيم الحوار لمناقشة القضايا العالمية المشتركة التي أصبحت أرضية لبروز قيم إنسانية عالمية مشتركة تتخطى الخصوصيات. وفي ظل التغيرات العالمية المعاصرة أصبح الكون الفسيح مجالا لنشاط الشباب من خلال الإنترنت وتمتع الفرد فيه بمساحات واسعة من الحرية بفضل حرية التعبير عن الرأي، من خلال الإنترنت والفضائيات دون رقابة حكومية.