تعثر مشروعاتنا مع المطر .. هل فعلا «الفساد» وراءها؟

المطر في مدينة ''نيويورك''، يباغتك أحيانا، فينهمر ويأخذك على حين غرة..
وذات يوم ماطر كنا نعبر جسر ''وليامزبرغ''، متأملين في ضخامة هيكله وكيابله، ودقة إنشائه، فهو جسر معلق يمتد إلى مسافة تتجاوز الكيلومترين، اكتمل إنشاؤه عام 1903، أي بعد عام واحد هنا من فتح الرياض.
لم يكن ذاك الجسر أقدم الجسور في مدينة ''نيويورك'' التي تجبرك على اقتناء ''مظلة'' تحسبا لأي مطر مفاجئ، بل إن هناك جسورا بنيت منذ عام 1848، أي في زمن يوازي هنا زمن الدولة السعودية الثانية، وبدقة تاريخية أكثر على عهد الإمام فيصل بن تركي (الفترة الثانية).
فلماذا لم يتأثر جسر قديم مثل جسر ''وليامزبرغ'' بني منذ 110 أعوام بالأمطار المستمرة التي تهطل على مدينة مثل ''نيويورك''، في حين أن جسورا وأنفاقا وغيرها أنشئت منذ سنوات قليلة في مدننا السعودية وتأثرت بأمطار عابرة؟
حسنا، إذا كان البعض يرى أننا ذهبنا بعيدا، وعبرنا المحيط الأطلسي إلى نيويورك، فدعوني أتساءل لماذا لم تتأثر مباني الوزارات والمرافق العامة والطرق التي أنشئت منذ عهد الملك سعود؟ ولماذا ظلت صامدة في وجه المطر؟ ولماذا لم تصمد بعض المشروعات الحديثة؟
هل فعلا أصابعنا تشير إلى المتهم الحقيقي عندما تشير إلى بعبع ''الفساد''؟ أم أن المتهم الحقيقي يتوارى خلف ظل البعبع؟ معظم زملائي كتاب الرأي في الصحف السعودية، وكثير من المغردين في ''تويتر''، ألقوا باللائمة على الفساد، وأنه السبب الرئيس وراء عدم صمود البنية التحتية في وجه المطر، وهذا يعني إما أن (1) المسؤولين (الحكوميين) عن المشروعات قبضوا رشاوى من المقاولين مقابل تغاضيهم عن شروط ومواصفات الإنشاء، أو أن (2) المسؤولين (الحكوميين) تقاسموا مبالغ من قيمة المشروع، وتركوا الباقي من الفتات للمقاول (ومقاوليه من الباطن) كي ينفذوا المشروع بالجودة والتكلفة الأقل.
نعم، الفساد موجود عندنا، ويتضح في أشهر قضية فساد سعودية (كارثة سيول جدة) والرشاوى والتجاوزات التي حدثت، وهو فساد يندرج ضمن ما ذكرناه أعلاه، لكنني على صعيد آخر أخالف بعض الآراء المطروحة، وأقول من واقع دراسة لمستوى ''إدارتنا'' للمشروعات إن سبب تدهور البنية التحتية مع المطر لا يعود بالضرورة إلى ''فساد'' المعنيين في إدارة المشروعات (جريمة)، بل يعود إلى ضعف كفاءة المعنيين في إدارة المشروعات (مشكلة ضعف تأهيل)، وهنا نتحدث عن فرق كبير بين جريمة يعاقب عليها القانون، وبين مشكلة ضعف في العناصر البشرية تحتاج إلى تدريب وتأهيل وتنظيم (تحديد للمهام والمسؤوليات).
ويروي أحد كبار المقاولين في البلد أن شركته تنفذ المشروع الحكومي وفق المواصفات الفنية التي حددتها الجهة الحكومية، وأن التنفيذ يتم بنسبة 100 في المائة، مع أنه يدرك أن مواصفات الجهة الحكومية (صاحبة المشروع) تتعارض أحيانا مع المعايير الهندسية والفنية السليمة، ويدرك أيضا أن المشروع رغم أنه نفذ وفق مواصفات الجهة، إلا أنه لن يدوم طويلا، لأن من وضع المواصفات ''جاهل'' و''غير جدير''!
لهذا، علينا دائما أن نبحث عن الأسباب الحقيقية لكل مشكلة، فالعلاج الذي ينطلق من أسباب لا علاقة لها بالمشكلة، لن يكون علاجا ناجعا، بل إنه قد يفاقم المشكلة، ويحولها إلى أزمة!
ومن وجهة نظري، أن التحدي الذي يواجه إدارة وتنفيذ المشروعات في السعودية، ويؤدي إلى تعثرها بهطول الأمطار أو دونه، يكمن في أمرين: تدني معرفة المعنيين بإدارة المشروعات وضعف مهاراتهم.
أما ''تدني المعرفة'' (الجهل) فإنها تظهر منذ الخطوة الأولى، حين يتم إعداد مسودة ''المواصفات الفنية'' للمشروع، فمن الذي يعد هذه ''المواصفات''؟ من يحدد سمك السقف؟ ومقاس المواسير؟ يحددها غالبا مجموعة من الموظفين الحكوميين (الإداريين)، يضعون ''مواصفات فنية'' لمشروع رغم أنهم ليسوا مهندسين، ولا علاقة لهم بعلم الهندسة لا من قريب أو بعيد، وهم من يمكن وصفهم بـ ''متهندسين'' (المتهندس هو موظف حكومي إداري ''يعتقد'' أنه اكتسب خبرة هندسية من خلال عمله بالمقاولات الحكومية، لذا على الهيئة السعودية للمهندسين أن تتصدى لأمثاله)!
أما ضعف المهارات، فإنه يظهر من عدم كفاءة المعنيين بإدارة المشروع الحكومي، علما أن إدارة المشروعات هي بحد ذاتها فن يتطلب من الأفراد اكتساب مجموعة من المهارات، ولذلك نجد أن العالم المتقدم تجاوز مرحلة ''الاجتهاد'' في إدارة المشروعات، وأسس مفاهيم ومعايير علمية واحترافية لذلك النوع من الإدارة، وتحقق هذا عندما جرى تأسيس معهد إدارة المشروعات (PMI) في أمريكا عام 1969، الذي يمنح الرخصة المهنية في إدارة المشروعات (PMP) على مستوى العالم، وهذه الرخصة المهنية تعلم الفرد المرخص 47 عملية ضرورية في إدارة المشروعات:
• عمليتان عند بدء المشروع.
• 24 عملية عند التخطيط للمشروع.
• 8 عمليات عند تنفيذ المشروع.
• 11 عملية عند مراقبة ومتابعة المشروع.
• عمليتان عند إتمام المشروع.
ودون أن نستعرض مؤهلات المعنيين بإدارة المشروعات الحكومية (تجنبا للإحراج!)، أجزم لكم أن الأغلبية لا تملك المعرفة المطلوبة (مثل علم الهندسة) والمهارات المطلوبة (مهارات إدارة المشروعات)، وبالتالي فإن افتقارهم للمؤهلات المطلوبة سيظهر جليا عندما تناط بهم إدارة المشروعات، وتظهر النتيجة في تعثرها وفشلها.
إنني لا أدعو إلى إعادة وزارة الأشغال العامة إلى المشهد، لكنني أطالب بوضع عدد من المبادرات أبرزها إما إنشاء ''هيئة عامة'' تشرف على المشروعات الحكومية، وإما إنشاء شركة حكومية تعنى بوضع المواصفات الفنية والهندسية لكل مشروع حكومي تتجاوز تكلفته الإجمالية مبلغا معينا، على أن تقوم الشركة باستقطاب أجدر الكفاءات الوطنية في المجال الفني والهندسي.
ولنا عبرة في المشروعات الحكومية التي ُيطلب من شركة ''أرامكو'' تنفيذها، فنحن نعتقد فقط أن ''أرامكو'' تتمتع بدرجة عالية من النزاهة، وهذا صحيح، لكن فوق ذلك فالشركة تتمتع بدرجة عالية من ''الإتقان'' و''الجودة'' في العمل، مع إسناده إلى المتخصصين، وهذا ما يظهر منذ إعداد المواصفات الفنية للمشروع مرورا بمراحله الخمس.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي