البعد الاقتصادي .. والقرارات العمالية الدولية
إن معظم الدول الغربية وأمريكا تعاني أزمات مالية خانقة منذ عام 2008، إضافة إلى ويلات الديون السيادية والوضع الاقتصادي المتردي حتى أضحت هذه الدول أشبه بالعبء الاقتصادي على بقية دول العالم.
بيد أن بعض دول الشرق ''الصين ودول الخليج'' وغيرها تقوم بعملية التمويل والاستثمار في تلك الدول لسداد ديونها عن طريق شراء سندات وصكوك، فالسعودية وحدها لها احتياطات أجنبية تربو على 2.64 تريليون ريال مستثمرة لديهم. ويُعد هذا التمويل ضرورة قصوى لأمريكا وبعض الدول الغربية لضخ الحياة في اقتصادياتهم.
لقد تجاوزت الديون في بعض الدول الغربية نسبة الدين العام لنسبة دخلها القومي، الأمر الذي يعني بالمصطلح المالي أنها مفلسة مالياً! مما حدا ببعض تلك الدول مثل أمريكا لطباعة الأموال وإصدار سندات الدين 75 مليار دولار شهريا ''التسيير الكمي''، ولبيع جزر وعرض مدن للبيع مثل بيع دين مدينة ديترويت بمبلغ 18 مليار دولار وإحدى الجزر التابعة لولاية نيوجرسي بمبلغ 12 مليار دولار بغية تغطية عجزهم المالي مع تعديل وفرض نظام مالي جديد للضرائب أشد صرامة من ذي قبل.
إن كل هذه الخطوات تحمل في طياتها دلائل مهمة منها أولاً أن المشكلة الاقتصادية التي تعانيها تلك الدول ليست مشكلة دورة اقتصادية ''ركود، كساد، ثم تعافٍِ ونمو''، كما يحاول البعض تصويرها والترويج لها، لكنها تمثل مشكلة اقتصادية جذرية في هيكلة الاقتصاد وثقافته، بينما الجانب المهم يشير إلى أن موازين القوى المالية قد تحولت من دول الغرب لمصلحة دول الشرق الممولة مالياً مثل السعودية والصين وغيرها، في حين أصبحت الدول الغربية المهيمنة بقوانينها المالية هي المقترضة والعالة مالياً على العالم.
ورغم كل تلك الإخفاقات الاقتصادية للدول الغربية، إلا أن السياسات العمالية والمالية لتلك الدول تنطوي على قدر كبير من المكابرة وازدواجية المعايير في تعاملها مع بقية دول العالم الأخرى، وفي الوقت ذاته تم تغييب عنصر الشفافية بين صناع القرار وناخبيهم حيال هذه الأزمات المالية الخانقة، وفي هذا الصدد فقد علت صرخات جماهيرية في تلك الدول عرفت باسم ''أوكيوباي وول'' Occupy Wall وتم قمعها في غياب وسائط الإعلام، وقد أظهرت تلك المظاهرات واقعاً مخيفاً للنظام المالي الغربي ومعاناته وويلاته، حيث كانت الاحتجاجات تطالب بمحاربة الرأسمالية المتوحشة والنظام المالي المتهالك والنمط الاستهلاكي المدمر وتبني ثقافة عمل مبنية على الإنتاجية والكفاءة العمالية.
إن الحقيقة الاقتصادية الواضحة تؤكد أن ذلك العليل مالياً ''أمريكا والغرب'' هو من يحكم العالم في ظل مفهوم خاطئ بأنهم هم وحدهم العالم بأكمله ويتبعهم في ذلك منظماته الدولية الثلاث، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة وما انبثق عن هذه المنظمات كمنظمة التجارة العالمية ومجموعة العشرين وغيرها.
كما أن صاحب القرار المالي الأمريكي والغربي لا يستطيع أن يقدم حلولاً مالية ناجعة لناخبيه لأنها تُعتبر بمثابة انتحار سياسي له إذ ليس في مقدوره الاعتراف بالمشكلة وحث ناخبيه بتغيير نمط حياتهم وزيادة كفاءة الإنتاج والعمل من خلال إضافة ساعات عمل أخرى وتقليل أيام الإجازات وإلغاء الحد الأدنى للأجور والذي يعد مرتفعاً عن باقي دول العالم والتنازل عن الرفاهية وحياة الترف، كما أنه لا يتسنى له أن يعترف لناخبيه بأن هناك خللاً في أنماط حياتهم مرده الفكر الاقتصادي الغربي الذي تعتريه النقائص. وهنا يكمن الداء إذ لا مناص له من التنصل من دفع الفاتورة الاقتصادية الباهظة وحث دول أخرى لتغطية عجزه المالي، مع أن الغرب يحجم عن تزويد كثير من دول العالم بالتكنولوجيا وفرض أنظمة حماية اقتصادية لمصلحته وافتعال القضايا القانونية والإعلامية وتجميد أرصدة أموال الدول.
إن الفكر الاقتصادي الغربي المترنح بدلاً من تقويمه لمبادئه ونتائج تطبيقه الكارثية يلتف على الحقائق بإصدار أنظمة عمالية دولية عقيمة تُعد أحد أسباب فشل مثل تلك الأنظمة المتعلقة بالكفاءة والإنتاج والحد الأدنى للرواتب والتقاعد و تقليص عدد أيام العمل وساعاته وزيادة أيام الإجازات. والأدهى إضفاء موضوع حقوق الإنسان على هذه الأنظمة بما يتماشى مع مصلحته المتغيرة، وكما قال أحد المفكرين ''إن دول الغرب تتعامل مع موضوع حقوق الإنسان والأنظمة كمن يتعامل مع من صنع صنماً من تمر إن شبع ألّهه وإن جاع أكله!
وقد أشار إلى ذلك أيضاً رئيس الوزراء الماليزي السابق محمد مهاتير في مقالة نشرها في صحيفة Financial Times اللندنية بتاريخ 11/1/2012، حيث تناول مبدأ تعامل الغرب بازدواجية المعايير وتقديمهم حلولاً لغيرهم مختلفة من تلك التي يضعونها لأنفسهم، موضحاً أن دول الغرب قبل الأزمة المالية طلبت عن طريق أذرعتها الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد إبان الأزمة المالية الحادة التي ضربت دول الشرق الأدنى عام 1997 تغيير نمط حياتهم وثقافة عملهم وزيادة ساعات العمل وأيامه ورفع سن التقاعد وإلغاء الحد الأدنى للأجور مع تقليل أيام الإجازات وغيرها. وهذا يدل على أن التوصيات المقدمة من الدول الغربية لدول الشرق كانت مشروطة إذا أرادت التمويل المالي لإنقاذها وأن يعملوا بتلك الوصفة المالية، وعندما أصابتهم الأزمة المالية عام 2008 وحتى تاريخه نراهم لا يتقيدون بالوصفة التي وصفوها لدول الشرق في أزمتها وهم الآن يعانون مثل الويلات السابقة التى أصابت تلك الدول وقد تكون أشد ضراوة منها، بل يطلبون المزيد من المال لتمويل عجزهم دون المساس بنمط حياتهم وثقافة عملهم.
إن بعض الدول الغربية وأمريكا تحاول اليوم القيام بتصدير أنظمتها العمالية البالية تحت حجج كونها منظمات عالمية وحقوقية أو أنظمة جديدة تابعة لمجموعة العشرين أو لمنظمة التجارة العالمية أو غيرها ويتم تسويقها لدى دول الاستهلاك، والتي للأسف نحن في قلبها وكأن مصير دولنا أن تظل مدى الدهر دولاً مستهلكة وغارقة في ديون استهلاكية فلكية حتى ينتفع السوق الغربي والأمريكي ويعاود عافيته المالية بخلق أنظمة دولية على حساب مصير حياتنا وثقافة شعوبنا، وقد يكون رسخ في عقلية الكثير منهم أن الدول الاستهلاكية كالدول الخليجية تعيش فوق بحور من الموارد الطبيعية الهائلة وهذا يخول الغرب وغيره الانقضاض عليها في غياب مطالبة الدول العربية بحقوقها الاقتصادية والقانونية أسوة ببعض دول العالم الأخرى.
من وجهة نظري فإنه ليس هناك دافع لتبني أنظمة عمالية دولية والدفاع عنها وفي ثناياها نمط حياة وأنظمة عمالية بعيدة عن واقعنا وتشكل أحد أسباب فشل الغرب المالي والاجتماعي والأخلاقي، حيث ينطوي هذا الأمر لو قبلنا بأنظمتهم العمالية على كارثتين أولاهما ضعف الإنتاجية وثانيهما زيادة معدلات الاستهلاك المخيفة.
لقد كنا في الماضي نقبل بكثير من النظريات الاقتصادية الغربية على علاتها ودون أي تحدٍ فكري مثل حرية السوق وعدم التدخل الحكومي في الأزمات المالية والديون الاستهلاكية ونمط الحياة البذخي والترف المفرط، إلا أن الأحداث قد أثبتت فشل ومضار كثير من تلك النظريات الاقتصادية وغيرها والشواهد كثيرة في هذا السياق، ولا عجب أن الكثيرين ممن ابتدع تلك النظريات منهم من غير مساره عندما أدرك الواقع الذي هو على النقيض مما كان يرمي إليه، فلماذا نتمسك بتلك النظريات أكثر منهم وهم من ابتدعها وبدأ التخلي عنها؟
ونطالب هنا بضرورة مراجعة الأنظمة العمالية وعدم تقبلها كحقيقة مسلّمة وأنها مطالب اقتصادية عالمية وأن المملكة موقّعة على تلك الاتفاقيات الدولية وليس هناك فكاك منها، خاصة الأنظمة العمالية التي أودعت أمام مجلس الشورى أخيراً للتصويت عليها، و طبقا لبعض التصريحات الأخيرة فإنها ستصيب حياتنا وثقافتنا بعد 90 يوماً.
كما يجب الوقوف على جدوى إضافة تلك الأنظمة العمالية إلى العملية الإنتاجية للفرد والمجتمع السعودي أم أنها ستفاقم نسب الاستهلاك الذي نعانيه وضعف الإنتاجية الذي قد يلازمنا لأجيال مقبلة من قرارات تخفيض ساعات العمل وتقليل عدد أيامه وزيادة الأجور وغيره، لأن مثل تلك القرارات العمالية قد تؤدي إلى ارتفاع الأسعار وزيادة البطالة بأنواعها وانعدام الإنتاجية ونشر الثقافة الاستهلاكية والإفلاس الفردي والمؤسسي. فلنبدأ من حيث ما انتهى إليه الغرب وأمريكا وأن تكون لدينا منهجية خاصة بنا وثقافة عمل ناجحة يحتذى بها مثل بعض دول الشرق وليس كما يُصدر لنا من الدول الغربية.