هل الفساد يعوق التنمية؟

الغريب أن بعض الاقتصاديين يقولون.. لا يؤثر الفساد في التنمية بل يؤكد بعض المستثمرين أن الفساد المالي والإداري لا يؤدي إلى تعطل التنمية الاقتصادية والعلمية والتقنية، بأي حال من الأحوال. شخصيا أرى أن الفساد لا يؤدي فقط إلى تعطل التنمية، بل يؤدي إلى قتل الحافز النفسي لدى الأفراد. ومتى تغلغل في مجتمع حلت عليه اللعنة، والأمثلة على انهيار الدول وتفسخها وتحللها نتيجة الفساد لا تعد ولا تحصى. ولكن كيف يمكن تبرير فساد كثير من الدول "فساد مالي، وإداري"، على الرغم من تمتعها بوضع اقتصادي إجمالي أقل ما يمكن وصفه به أنه ممتاز. ولعل أشهر وألمع المنظرين الذين يدعون أن الفساد لا يؤثر في التنمية جيم روجرز، وهو من أهم المستثمرين في العالم، والشريك السابق لجورج ساورس "أشهر مديري صناديق التحوط في العالم". ويمكن الرجوع إلى أحاديثه الإعلامية ومقالاته المتعددة في هذا المجال عن طريق الإنترنت.
والأمثلة التي تضرب على عدم تأثير الفساد في التنمية عديدة. فهناك الولايات المتحدة التي صاحب الفساد معظم مراحل تطورها. وسواء كانت مرحلة عبودية الإنسان، أو مرحلة العصابات المسلحة أو مرحلة تهريب الخمور، كان التطور الاقتصادي سيد الموقف. وهناك المثال الروسي كذلك، والذي يصل الفساد فيه إلى النخاع، وكذلك الصين وغيرها. هذه الأمثلة تعطي الانطباع لدى كثير من الاقتصاديين بأن الفساد لا يؤدي إلى تعطل التنمية، ولكن حين الإمعان في الشواهد التاريخية لهذه الأمثلة نجد أنه لا يمكن إغفال قوة مكافحة الفساد المضادة. فالولايات المتحدة على سبيل المثال اضطرت للقضاء على كثير من صور وأشكال الفساد الداخلي لها عن طريق القوة العسكرية. وهذا يؤكد أن قوة الفساد قابلتها قوة إصلاح رهيبة اضطرت معها الدولة للتدخل العسكري لتغليب الصواب. وحتى الصين، قبل أيام أعلن عن مصادرة أموال تعود لأقارب رجل أمن سابق، 14 مليار دولار. وهذا مؤشر هو الآخر على أن الفساد في الصين ليس طليقا يعيث في الأرض حيث يشاء. بل إن الدولة بالمرصاد. حتى روسيا اضطرت إلى إقحام القوات المسلحة في الحرب على الفساد في أكثر من موضع.
الحقيقة أن نظرية عدم تأثير الفساد في التنمية صحيحة طالما كان الفساد مطاردا ومحاصرا من الدولة. أما ترك الحبل على الغارب فليس إلا دليلا على فساد رأس هرم المؤسسة، ولنا في دول إفريقيا ودول العالم الثالث مثال واضح على ذلك. لا يمكن الادعاء أن الفساد لم يؤثر في الدول المتقدمة، لضرب مثال على أن الفساد لا يؤثر في التنمية. هذه الدول اضطرت لخوض حروب مع ذاتها كي تحجم الفساد وتقزمه، وهذا هو السبب الحقيقي لعدم تأثير الفساد في تنميتها الاقتصادية والعلمية والحضارية.
لا يمكن التخلص من الفساد، ولكن ينبغي العمل بجد واجتهاد على تحجيمه وتقزيمه ومحاصرته ليكون بأقل مستوى ممكن. كما لا يصح أن يترك الحبل على الغارب لتكون الفوضى والتخلف والتسيب متسيدة على الساحة. إن الفساد آفة تعطل نمو الدول، وتقتل كل قيمة إنسانية وأخلاقية سوية. والعجلة مذمومة في كل شيء إلا في محاربته ومحاصرته وتقزيمه. لا بد من الاقتداء بالدول المتقدمة، ولا بد من الاستفادة من التجارب الدولية في مكافحة الفساد. وكافة التجارب تشير إلى أنه لا يمكن محاصرة الفساد دون استخدام القوة. وفي بلادنا الآمال منوطة بهيئة مكافحة الفساد للقيام بدورها في مكافحة الفساد، ورفع التوصيات التي نستطيع من خلالها أن ننعم بدولة ومجتمع يضرب به المثل في النزاهة والانضباط.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي