«نزاهة» .. دورها مكافحة الفساد وليس توعويا
استفزني لكتابة هذا المقال خبر رئيس في صدر إحدى صحفنا المحلية، يقول "نزاهة تدعو القطاع الخاص للإسهام في مكافحة الرشوة"، في هذا الخبر يناشد رئيس الهيئة التجار ورجال الأعمال بالتوقف عن الرشوة! بالله عليكم ماذا تتوقع "نزاهة" من هذا الذي لم يطع أمر الله -عز وجل، ولم يسمع تهديد ووعيد محمد - صلى الله عليه وسلم - للراشي والمرتشي والرائش؟ هل تتوقع منه أن يستجيب لدعوة رئيس "نزاهة“" على صفحات الصحف؟ إننا بهذا العمل لا نضحَك على أنفسنا فقط، لكننا نُضحك العالم علينا أيضا.
"الرقابة البشرية لا تغني عن تنمية شعور موظفيك بالرقابة الربانية".
"إفشاء أسرار العمل، مخالفة شرعية وقانونية".
"حث الإسلام على الأمانة، وهي أعلى قيم النزاهة".
"الأمانة من أسمى قيم النزاهة".
"الفساد مقوض للتنمية فاحذر منه".
"حافظ على مكتسبات وطنك".
هذه مجموعة من الرسائل التي وصلتني على جوالي، وبالتأكيد وصلت الكثير من المواطنين والمقيمين أيضاً، مرسلة من "نزاهة"، والحقيقة أنني أترك الحكم عليها لكم أولاً، أما أنا فلا أجد فيها أي توعية أو تحفيز، فالحرامي يعرف أن السرقة حرام، والخونة يعرفون أن الأمانة ضد الخيانة وحكمها حرام، والجميع يعرف أن الفساد مضاد الوطنية ... إلخ.
قبل ما يزيد على ثلاث سنوات تأسست "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد"، استبشر الناس خيراً بإعلان تأسيس الهيئة، فقد كانت أول مرة يتم فيها الاعتراف بأن الفساد يعيش بيننا ويعشعش بين ظهرانينا، وأن الشيطان يقيم معنا، وأن مجتمعنا ليس مجتمعا ملائكيا.
تهدف الهيئة إلى حماية النزاهة، وتعزيز مبدأ الشفافية، ومكافحة الفساد المالي والإداري بشتى صوره ومظاهره وأساليبه، وهي أهداف سامية ونبيلة وقوية؛ لكنني لم أر ولم أسمع عن أي محصلة لعمل الهيئة إن كانت تعمل حقاً! هل شعر أحد من المواطنين بذلك؟ لم أقم بأي دراسة، لكن ما سمعته في مجالس كثيرة رسمية وشعبية وجماهيرية تضم مختلف أطياف المجتمع، يتمحور فقط حول انطباعات سلبية للغاية عن الهيئة وعملها.
بل على العكس من ذلك فإن وجود الهيئة كان بمثابة عقار مخدر لكثير من الجهات الرقابية الأخرى أو التابعة لبعض المؤسسات أو المسؤولين، على أساس أن وجود هيئة مستقلة مرتبطة بالملك مباشرة دورها تأصيل النزاهة ومكافحة الفساد سيغني عن أدوارهم، أو على الأقل يُفتّر من حماسهم وهمتهم.
من ضمن اختصاصات الهيئة؛ التحري عن أوجه الفساد المالي والإداري في العقود مع الجهات الحكومية وشبه الحكومية والتجارية التي تسيطر عليها الحكومة، واتخاذ الإجراءات النظامية بشأن العقود التي تنطوي على فساد أو مخالفات للأنظمة واللوائح، ومتابعة استرداد الأموال والعائدات الناتجة من جرائم الفساد مع الجهات المختصة.
هل سمعتم عن أي تنفيذ لهذه الاختصاصات؟ أما أنا فلم أسمع! مع اهتمامي الشديد بثقافة تأصيل النزاهة ومكافحة الفساد وإصلاح المجتمع، إلا أنني لا أذكر حالة واحدة قرأتها أو سمعت عنها تمت فيها إحالة مسؤول أياً كانت مرتبته إلى التحقيق والقضاء وفصله من الخدمة أو عقابه بالسجن، على الرغم من وجود حالات أزكم الأنوف عفنها، إلا إذا كانت هذه العقوبات تتم في السر والخفاء ولا يدري عنها أحد!
لا يوجد رادع أكثر من العقوبة والتشهير بها، وهي ليست عقوبة للمخطئ فقط، لكن فيها ردع لغيره، فإن أكثر الناس لا يردعهم إلا العقوبة، حيث لا جدوى من النصح، لذلك قال تعالى في كتابه العزيز "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون" آية ١٧٩ سورة البقرة، والقصاص هو القتل للقاتل، ومع ذلك فقد وصفه الحكيم العليم بأنه حياة، لأن فيه ردعا للغير، وبالتالي منع للشر أو التقليل منه على المجتمع ككل.
في أول سنة لـ "نزاهة" ظهرت أمامها قضية سيول جدة الشهيرة التي فُتحت ملفاتها ولم تغلق وكانت هي القضية الأشهر في تاريخ الفساد محلياً؛ وهي الاستثناء الوحيد في أحكام الفساد التي تم الإعلان فيها عن تجريم موظف حكومي، ثم توالت قضايا الفساد الشاهر الظاهر الذي في أقل أحواله يستدعي التحقيق وإعلان النتائج، ومن أبرز هذه الملفات: شركة الاتصالات المتكاملة، شركة المعجل، ملف الإسكان، ملف الأوقاف، ملف الرياضة، وملف الأراضي الشائكة، إضافة إلى ذلك ولا يخفى على أحد الفساد الذي قد ينتج عن العقود الضخمة التي وقعتها الحكومة خلال السنوات القليلة الماضية والمؤهل كثير منها للتحقيق فيها بشكل ممتاز، خاصة أن بعض هذه العقود تتم ترسيتها بشكل مباشر من دون مناقصة، لشركتي المقاولات الأشهر في تاريخ المملكة "توم" و"جيري".
لقد سمعنا كثيراً من توجيهات خادم الحرمين الشريفين المباشرة وعتبه على الوزراء والكثير من المسؤولين حول تأخير تنفيذ المشاريع، ونصحه الدائم بالاهتمام بالمواطن، وحزمه الشديد ضد الفساد، حتى أصبحت عبارة "كائناً من كان" أيقونة لمطلب العدل في الحكم ومواجهة الظلم والفساد مسجلة باسم "عبد الله بن عبد العزيز آل سعود"؛ لكن هل "نزاهة" قامت بواجبها تجاه هذا التكليف، وأدت الأمانة التي حملتها أخلاقياً ووظيفيا وشرعياً؟
في السابق كان يقال عند القبض على المجرم: "جاك الموت يا تارك الصلاة" تخويفاً وترهيباً له وذهبت مثلاً، أما اليوم فكأني بـ "نزاهة" ينطبق عليها مثل آخر هو: "يدربيه السيل ويقول ديمه"، أو لتعترف "نزاهة" بعجز حيلتها وضعف بأسها أمام أساطين الفساد لفك الإحراج عن نفسها ولتتمثل بالمثل: "قال انفخ يا شريم .. قال ما من برطم".
جهود الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تتطلب اليوم تغيير اسمها ليتناسب مع ما تقوم به، ليصبح: "الهيئة الوطنية للتوعية بمكافحة الفساد"، وبذلك ينطبق الفعل مع الاسم، والوصف مع الموصوف.