الصندوق السيادي والضوابط السيادية
تم التطرق في مقالات سابقة للضوابط Governance المطلوب توافرها في الصندوق السيادي، وأن تلك هي أسباب القصور في الوضع الحالي لإدارة الاحتياطيات والاستثمارات الخارجية للدولة. فعلى الرغم من أن أداء الاستثمارات الخارجية لدى مؤسسة النقد خلال العشرين سنة الماضية يعتبر الأفضل بين معظم الصناديق السيادية في العالم، تبقى الضوابط ضعيفة. والمطلوب الآن هو التأكد من استمرار تلك النجاحات، وأن تكون تلك الاحتياطيات متوافرة بالحجم المطلوب عندما يكون الوطن في حاجة إليها. وهذا لا يتأتى إلا بوجود الضوابط السيادية المناسبة كما هو معمول به في دول أخرى وصناديق سيادية ناجحة Best practice.
المشكلة في السابق لم تكن أبداً في الأداء وتحقيق العوائد المطلوبة، المشكلة تتلخص في الآتي:
أولا، عدم وجود الضوابط المطلوبة التي تحقق الاستقلالية في تنمية تلك المدخرات، من دون أن تكون مفتوحة بالكامل على مصروفات وزارة المالية كما هو الوضع الحالي، حيث إن كل مبلغ يصرف الآن بالريال يتم سحب Depleting ما يعادله من الدولارات تلقائياً من الاحتياطيات والاستثمارات الخارجية للدولة. ولو كانت تلك الاستثمارات مستقلة في صندوق سيادي، لكانت الاحتياطيات المفتوحة على مصروفات وزارة المالية هي فقط تلك الاحتياطيات المخصصة لهذا الغرض (احتياطيات البنك المركزي) وليس كامل مدخرات الدولة. ولهذا فالصناديق السيادية العالمية في النرويج، والكويت، وأبو ظبي، والصين، وسنغافورة، وغيرها لا تتأثر بمصروفات وزارة المالية، محفوظة تلك الاستثمارات لوقت الحاجة، يسحب منها بقرار من السلطة الأعلى في البلد.
ثانياً، أهمية وجود الضوابط الفنية المطلوبة Governance التي تضمن وتضبط عملية التطابق بين الكفاءات المسؤولة عن الاستثمار ومستوى ونوعية الاستثمار المطلوب والمخاطر المصاحبة Matching skills with the risk taking، وذلك من خلال مجلس إدارة مستقل من أهل الاختصاص. ويعتبر متطلب التطابق هذا Matching من الضوابط المهمة في الاستثمارات السيادية للمحافظة على المدخرات الوطنية. ومن دون هذا الضابط، يمكن أن يتم اختيار الكفاءات المطلوبة بسوء تقدير، أو لمصالح أو تنفيعات فئوية، وتضيع بذلك مدخرات وطنية، وربما تضيع أيضاًً نجاحات ومكتسبات سابقة.
ثالثاً، أن إنشاء صندوق سيادي مستقل يعتبر ضرورة قصوى للمحافظة على الاستقرار المالي والاقتصادي للمملكة، وليس فقط خيارا ماليا استثماريا يحقق عوائد جيدة. ومن الأهمية أن يؤخذ الأمر بجدية وحرص كبير، أخذا في الاعتبار اعتماد الدولة المتزايد على دخل البترول. لذا فإن الرصد لهذا الصندوق يجب أن يتعدى فوائض الميزانية ليقتطع نسبة معينة من دخل البترول سنوياً نحو تمويل هذا الصندوق كما هو معمول به في الدول الأخرى مثل النرويج والكويت وأبو ظبي، وكذلك تحويل جزء من الاحتياطيات لدى البنك المركزي إلى الصندوق السيادي كما هو معمول به في دول مثل الصين وكوريا وسنغافورة. ولتحقيق ذلك، فمن الضوابط السيادية المهمة في هذا الأمر Good Governance، ألا يكون الرأي والقرار في تلك الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بأمن البلد ومستقبله مقتصراً على وزارة المالية أو مؤسسة النقد لتضارب المصالح. فلا بد أن يأتي القرار من جهة أعلى. وفي الدول الأخرى لم يكن الأمر سهلا عندما أرادت تطبيق تلك الضوابط في الادخار بآلية محسوبة Rule based، سواء في تحويل نسبة محددة من دخل البترول سنويا مباشرةً لمصلحة الصندوق السيادي أو التحويل من الاحتياطيات لدى البنك المركزي إلى الصندوق السيادي. والاعتراض عليها من قبل وزارات المالية أو البنوك المركزية كان مفهوماً ومتوقعاً، إلا أن الأمر يحسم في النهاية لما يخدم المصلحة العامة ومستقبل البلد.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه إضافة إلى المخاطر والمصاعب المستقبلية الكبيرة التي قد تواجه المملكة نتيجة لعدم وجود هذا الدعم المطلوب للاحتياطيات والاستثمارات الخارجية للدولة، فإن هذا أيضاً هو السبب الرئيس لتأخر التصنيف السيادي للمملكة عن غيره من دول الخليج. فمؤسسات التصنيف السيادي تأخذ في الاعتبار الحجم النسبي للاحتياطيات مقارنة بعدد السكان والمتطلبات المالية المستقبلية لكل دولة. لهذا فإن مؤسسات التصنيف السيادي العالمية تصنف المملكة في المرتبة الرابعة بين دول الخليج.