بيروقراطيو ما بعد شبكات التواصل الاجتماعي

"الإعلام سلاح فاعل، لكنه ككل الأسلحة سلاح ذو حدين"، كلمات جميلة ومعبرة لصاحب الفكر المستنير الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، فقد ترجل ذلك الإداري الملهم غير أنه خلف وراءه إرثاً كبيراً.
يهوى بيروقراطيو الأجهزة الحكومية السباحة في أكوام الأوراق والمهام التي لا تقدم ولا تؤخر. ودون أدنى شك فإن تعاملهم مع الإعلام التقليدي هو على شاكلة "لا أريكم إلا ما أرى"، إذ إن كل ما على البيروقراطي عمله هو أن يضع يده على الصحف وقنوات التلفزيون والإذاعة للتحكم في حجم وماهية المعلومات التي تصل للجماهير. وفي ظل ذلك فإن رأي البيروقراطي صواب "لا يحتمل الخطأ" ورأي غيره خطأ "لا يحتمل الصواب".
أما اليوم فقد كشفت الثورة المعلوماتية عن بيئة جديدة أحدثت طفرة هائلة في وسائل الإعلام من حيث الكم والكيف، وأعادت تشكيل خريطة العمل الاتصالي. تلك هي شبكات التواصل الاجتماعي التي ولى معها زمن التقوقع والانكفاء على الذات. وتحطمت بالتالي جميع الحواجز أمامها. الأمر الذي يتطلب من أجهزتنا الحكومية رسم علاقة وثيقة معها، ترتكز مع مبادئ الشفافية والمصداقية والموضوعية في ظل ارتفاع مستوى الوعي لدى الجمهور حيث بات من الصعب أن تنطلي عليه الأساليب التضليلية القديمة.
وعلى الرغم من الأرقام الفلكية لأعداد مستخدمي الشبكات الاجتماعية في المملكة، إلا أن أغلبية أجهزتنا الحكومية - إلا من رحم ربي - لا تزال متقوقعة، كل جهاز في بوتقته إن لم تكن "شرنقته". وكل جهاز يخطط على "ليلاه"، بعيداً عن التفكير في استثمار هذه الشبكات كمنصات مهمة أساسية للحصول على التغذية العكسية عبر جس نبض الجماهير والتعرف على توقعاتهم وطموحاتهم، وإيصال اقتراحاتهم وأفكارهم المجانية التي يمكن تقييمها وتطويرها لخدمة الجهاز الحكومي.
بيروقراطيو ما بعد شبكات التواصل الاجتماعي هم "أكثر حظاً وأقل سعادة". فهم من جانب يستخدمونها كوسيلة للدفاع عن قصور منظماتهم من خلال تلميع الصورة وإطلاق الوعود الخيالية وسوق التبريرات والحجج الواهية، في ظل تأثير متلازمة قصر النظر في البيروقراطيين، والبحث عن الأمجاد الشخصية والنتائج القريبة والفلاشات الزائفة. ومن الجانب الآخر هم أقل سعادة لكون هذه الشبكات الاجتماعية إحدى الوسائل الرقابية على ما يدور عن الجهاز الحكومي وما فيه، فهي تضع الموظفين تحت المجهر، وتسهم في إيصال شكاوى الجماهير وتظلماتهم.
لقد آن الأوان لإدراك مدى أهمية تعامل الأجهزة الحكومية مع شبكات التواصل الاجتماعي ومدى حساسية ذلك. فهو ليس هدفاً في حد ذاته، بل مجرد وسيلة يجب الاستفادة من مزاياها بشكل أخلاقي ومهني بعيدا عن "التلميع الزائف" الذي لا يلبث أن ينقلب على صاحبه. شبكات التواصل الاجتماعي وسيلة فاعلة لنقل الرأي العام للجهاز الحكومي، كما أن تفعيل الأجهزة الحكومية لها يجب ألا يكون من أجل الظهور فقط، بل لإيضاح الصورة الحقيقية للجهاز، ومن باب الشفافية لا أكثر.
خلاصة القول، إن على المسؤول أن يتمتع برحابة الصدر لتقبل الانتقادات، والتعامل والتفاعل معها بالجدية المطلوبة، وعدم انتهاج أسلوب الدفاع أكثر من أسلوب التوضيح والتنوير والتبصير، إضافةً إلى ضرورة التركيز على توظيف شبكات التواصل الاجتماعي بشكل مؤسسي مخطط ومدروس، وليس بشكل شخصي، مع ضرورة تخصيص كل جهاز حكومي لقناة أو أكثر للتواصل مع الجمهور.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه في الوقت الراهن، ما الأسباب التي تكمن وراء محدودية تجاوب أجهزتنا الحكومية مع شبكات التواصل الاجتماعي؟ وهل سيستطيع البيروقراطيون التعايش مع هذه الشبكات؟
إن على البيروقراطيين أن يستعدوا للتخلي عن "منطقة الراحة والحصانة" التي تمتعوا بها دون حسيب ولا رقيب! فقد حان الوقت لإعمال عقولهم وإخراج أفكار جديدة ترضي الجمهور الذي ارتفع سقف توقعاته، ولم يعد يرضى بالقليل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي