خريجو الدبلومات الصحية .. ما المشكلة؟ ومن المسؤول؟
حفلت مختلف وسائل الإعلام بما يشبه "ردة الفعل" الموجهة تجاه الدكتور عبد الرحمن البراك وزير الخدمة المدنية، بعد حديثه مع عدد من خريجي "الدبلومات الصحية"، التي زعم فيها بعض من تمت مقابلتهم أنه لم يتفاعل مع قضيتهم بالشكل المأمول، فلجأوا إلى "التصعيد الإعلامي"، ولم يبق أحد "لم يدل بدلوه" في الموضوع. وعلى الرغم من مستوى الطرح "المتشنج" في تلك الوسائل، إلا أنه لم يلامس في رأيي صلب المشكلة، ولن يكون معينا على حلها.
المعروف أن وزارة الخدمة المدنية واحدة من الوزارات التي تتأثر بأداء الوزارات الأخرى. وهي "تتوج جهود الآخرين"، لكنها لا يمكن أن تنطلق وحيدة في عملها دون فاعلية الجهات الأخرى. وبالتالي لا يمكن لها بمفردها أن تحل مشكلة "البطالة" في البلد، فهي تتعامل مع "أرقام وظيفية" ترسلها لها الجهات الحكومية، وتخصص ميزانيتها ورواتبها من وزارة المالية، ثم يأتي دورها بعد ذلك في التوجيه والتعيين وما يتعلق بـ "مسيرة الموظف الحكومي".
خلال السنوات الماضية، كانت المعاهد الصحية الخاصة من أفضل "المشاريع التجارية" وأقلها تكلفة في التشغيل، في ظل ارتفاع تكلفتها على الطلبة واستغلال المنح الحكومية لهم. انتشرت التراخيص "من باب المجاملات" بحجم وكم هائل، إذ إن كل ما تحتاج إليه هو "دار وغرف دراسية"، دون اشتراط معامل للتدريب العملي، ناهيك عن ضعف معايير القبول فيها، علاوة على ضعف التدريس النظري. ولم يجن فائدتها سوى المستثمرين في هذه المعاهد والكليات، التي كانت تغلب عليها "الصبغة التجارية" من خلال تركيزها على المداخيل المادية قبل كل شيء.
وفي ظل انتشار تلك المعاهد الصحية والكليات الأهلية وكليات المجتمع التابعة للجامعات الحكومية السعودية، دونما ضوابط صارمة ومعايير دقيقة تكفل جودة مخرجاتها، التحق بها العديد من شباب الوطن، على أمل أن يحصلوا على وظائف تناسب تأهيلهم الفني، الذي في الأغلب هو على مستوى "مساعد فني" أو ما في حكمه من المؤهلات التي تؤخذ بدبلوم يمتد إلى سنتين أو سنتين ونصف بعد الثانوية. ووصل عدد المعاهد الخاصة إلى أكثر من 122 معهدا، ما جعلها تضخ لسوق العمل خلال عقد من الزمان أضعاف مخرجات الكليات والمعاهد الصحية التابعة لوزارة الصحة طيلة ثلاثة عقود. وبعبارة بسيطة "غزارة في الإنتاج مع سوء في المنتج".
من هنا ظهرت مشكلة "الدبلومات الصحية" التي لا يمكن أن تلقي باللائمة فيها على جهة دون أخرى. وترعرعت المشكلة أمام أعين المسؤولين في وزارة الصحة الذين لا يمكن لهم أن يتنصلوا من دورهم الأساسي في تطور "كرة الثلج". فقد وظفت وزارة الصحة عدداً من خريجي تلك المعاهد، فكان ذلك بما يشبه "الإقرار" من الوزارة بجدوى التأهيل والتعيين لخريجي الدبلوم الصحي. وانتشرت سمعة هذا الدبلوم لفترة، حتى أصبحت كأنها "وظيفة التعيين المباشر"، وأقصر الطرق بعد الثانوية للتوظيف في القطاع الصحي. ووجدت وزارة الصحة نفسها الآن في "قلب المشكلة"، وباتت أمام تحديات كثيرة في ظل توجهاتها لتطبيق معايير الجودة، ورفع مستوى الخدمات والممارسات الصحية، موازاةً مع ما أنفقته الحكومة من المليارات.
وقبل البحث عن حلول للمشكلة، من المفترض أن يصل الجميع إلى قناعة ومن ضمنهم "خريجو الدبلومات الصحية"، بأن إيجاد وظائف لهم جميعهم كممارسين ليس حلا منطقيا وعمليا. إذ لا يمكن أن يتم إيجاد حل أو منفذ واحد يستوعب كل هذه الأعداد الهائلة، علاوة على قناعة الجهات بعدم كفاءتهم للعمل كممارسين. وفي ظل ذلك لا بد من تعدد الحلول والخيارات في التعاطي مع المشكلة، وينبغي ألا يتم التفكير في ظل تحييد العقل وتغليب العاطفة، وبالتالي نوجد مشكلات أخرى. قد يكون أحد الحلول هو إعادة تأهيل الجزء القادر والراغب في ذلك عن طريق إدراجهم ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين للحصول على مؤهل بكالوريوس، لمن تنطبق عليه شروط الابتعاث. أما الجزء الآخر ممن لا يرغبون في إعادة التأهيل، فقد يكون الحل على غرار حل "مشكلة خريجي الكليات المتوسطة للبنات"، بتعيينهم على وظائف إدارية ببرامج التشغيل الذاتي، ومنحهم الأولوية في المفاضلة على المسابقات، أو منحهم مراتب مناسبة على سلم "الخدمة المدنية" في الوظائف الإدارية بوزارة الصحة والمستشفيات والمراكز والمديريات الصحية وفي جميع القطاعات الصحية المدنية والعسكرية.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تم اختزال "البطالة" في خريجي الدبلومات الصحية فقط؟ هناك فئات أخرى من العاطلين تتطلب النظر إليها دونما عاطفة، ويجب أيضا احتواء مشكلتهم. فمسألة "خذوهم بالصوت" ليست معيارا عمليا أو منطقيا أو عادلا للنظر في وضع فئة دون أخرى. إن القضاء على البطالة يتطلب وجود استراتيجية شاملة ومتسقة مع الاستراتيجيات الأخرى ذات الصلة. تشترك فيه جميع الجهات المعنية كالخدمة المدنية ووزارة العمل والصحة وغيرها من الجهات المعنية، ولا يكون فيه ظلم لفئات معينة على حساب أخرى. مع الأخذ في الاعتبار أهمية إشراك القطاع الخاص في إيجاد حلول، إذ لا يمكن للوظائف الحكومية أن تستوعب كل العاطلين.
وأخيرا وليس آخرا، من خلال النظرة الشاملة للأبعاد المختلفة للمشكلة، التي تتجاذبها أطراف عدة، في ظل تقصير عام من المجتمع كله بمن فيه من تجار وجهات حكومية كالصحة والخدمة المدنية والمالية والتخطيط والتعليم العالي والتعليم الفني وهيئة التخصصات الصحية. تنصل البعض في نهاية المطاف من المسؤولية، واتفقوا على أن يجعلوا وزارة الخدمة المدنية ووزيرها في فوهة المدفع رغم أن للجهات الأخرى الدور الأهم في حل المشكلة.