رسالة الخطأ

Search is temporarily unavailable. If the problem persists, please contact the site administrator.


الهوية المركبة

تتخذ العلاقة مع الغير شكلين اثنين: علاقة كراهية أو علاقة تسامح، وغالبا ما تكون الكراهية موجهة نحو الغير (الغريب) والمختلف (دينا، لونا، عرقا، لغة...) ويكون التسامح مع الغير القريب والشبيه، بمعنى أن الذات تدخل مع الذات الأخرى المختلفة في علاقة سلبية عنوانها النبذ والإقصاء والعنف، بل العمل على تصفيتها جسدا، وفي مقابل ذلك تدخل معها في علاقة إيجابية عنوانها الحب والتعايش، بل العمل من أجل التضحية بالذات من أجلها، فمادام أنك مثلي فأنت في مأمن، وما دام أنك مختلف عني فأنت في خطر.

إن العنف كما يبدو مرتبط بالجوانب الوجدانية، فالانتماء والجذور التاريخية اللغوية والعرقية واللونية والدينية تعد بمثابة الحاضن لهذا العنف، وما الحروب باسم الدين أو التطهير العرقي إلا شاهد على ذلك. إننا بصدد إشكالية عويصة، لأن مسألة الانتماء صعبة الترويض!

قبل الخوض في موضوع الهوية الشائك والملغوم نحتاج بداية إلى تحديد من هو الغير (الغريب)؟ ٳنه غالبا نعت نطلقه على الأجنبي والمتطفل والمستعمر المهدد لاستقرار الجماعة وانسجامها، ولكن أيضا يطلق على المختلف عنا: دينا ولونا وعرقا ولغة وحزبا ونقابة. وإذا ما سألنا عن ماهو رد الفعل الطبيعي تجاه الغريب؟ فسيكون الجواب: الحذر والنفور والكراهية والحقد والنبذ والإقصاء والحرب. وهو مشهد يمكن تلمسه حتى في مملكة الحيوان، التي من المؤكد لنا ما يربطنا بها.

ويكفي لذلك ضرب المثال التالي: أليس الديك المهيمن على الدجاجات يحارب أي ديك ذكر وافد عليه إلى حد التقاتل، بل أليس الأسد عندما يهاجم عرين أسد آخر يأكل أشباله لأنهم لا يمتون بصلة إلى صلبه. لكن نحن الكائنات الإنسانية، وٳن كانت لنا "حيوانية" في شق، فنحن نخجل من ذلك ونتوق إلى عالم ثقافي يرفع مستوى الإنسان إلى ما يستحقه، فنسعى إلى خلق الحق سياسيا، ونتوق إلى مملكة تسودها العدالة، كما أننا نريد بلوغ النبل الأخلاقي كأقصى تمظهر للإنسان. وإذا كان الأمر كذلك، فإن العدوان تجاه الغريب الذي هو الجذر الأصيل في الإنسان يجابه ويقاوم من طرف الإنسان نفسه، بعبارة أخرى إذا كان الإنسان بالطبيعة يتجه نحو النفور من الغريب فهو بالثقافة يتجه نحو التقرب منه. وهو ما يفسر لنا مساعي الأديان والحكماء نحو خلق عالم سلمي من التآخي بين بني آدم مهما كانت اختلافاتهم. والتي غالبا لا يسمع صوتها لسوء الحظ.

#2#

سأقف في هذا المقال عند موقف طريف لفيلسوفة بلغارية اسمها " جوليا كريستيفا" ومن مواليد 1941م وهي صاحبة كتاب عنوانه "غرباء في دواخلنا" فهي كتبته لتبرز أن من نسميه الغير (الغريب) الأجنبي هو في حقيقة أمره يستوطن الذات، فالآخر ينطلق غريبا في بدايته عن ذواتنا، ليصبح بعد ذلك جزءا لا يتجزأ منها، والأمثلة على ذلك لا حصر لها.

فالمغاربة مثلا وإلى حدود مستهل القرن الـ 20 كانوا يعتبرون الفرنسي عدوا وغريبا مادام يهدد أرضهم وبعدما تمكن الفرنسيون من احتلال أرض المغرب وإعلان الحماية عليه سنة 1912م كان ذلك بمثابة الفيروس الذي وجب مناهضته، فازدادت العداوة ونشأت حركة مقاومة نتج عنها الاستقلال السياسي سنة 1956م، لكن هذا الفرنسي المطرود بقي جاثما على المغاربة ثقافيا، فجل المعاملات الإدارية مازالت تتم باللغة الفرنسية، بل حتى الدراسات الجامعية في العلوم الحقة ما زالت لم تعرب بعد، وهذا يعني أن الفرنسي أصبح طبقة من طبقات الذات المغربية، وجزءا لا يمكن فصله عن الهوية.

وأما إذا عدنا إلى الماضي البعيد فنحن نعرف أن المغاربة أمازيغ في أصلهم لكن إبان الفتوحات الإسلامية جاء العرب إلى المنطقة بوصفهم ذلك الآخر الغريب، لكن ما لبث مع الزمن أن أصبح طبقة كبرى من الهوية المغربية، باختصار إذا سألت عن من هو المغربي؟ فيستحيل عليك أن تقول ٳنه عربي فقط أو ٳنه أمازيغي فقط، فالهوية النقية الصافية الخالصة لا محل لها من الوجود، فالمغربي في عمقه هو مزيج من عدة عناصر، ٳنه: أمازيغي وعربي وإسلامي وأندلسي وإفريقي بل حتى غربي على اساس أن بالمغرب برلمان ودستور وحكومة ومنظمات حقوقية بالمقاييس الغربية ... إذن نحن نتحرك نعم بهوية واحدة ولكن هي هوية مخصبة وهجين من عناصر تشكلت مع التاريخ وهو الأمر الذي جعل جوليا كريستيفا تقول: "الغريب يسكننا على نحو غريب".

إذا ما سلمنا بفكرة جوليا كرستيفا كون (الغير) هم ليسوا فقط في الخارج بل هم في قلب ذواتنا فالنتيجة التي تريد أن تصل إليها هي: أنه عوض بغض وكره الغريب الأجنبي وجب التسامح معه والقبول به، لأننا أصلا نحمل الأجانب في دواخلنا، وإذا لم نفعل ذلك، فلنستعد لتمزق الذات الجماعية وهو ما يفسر لنا الحروب الطائفية داخل الذات نفسها، لأن الجماعة في هذه الحالة لم تستوعب كون الأجنبي قابعا في الذات نفسها.

إذن عندما يكبر الإنسان ويصل إلى سن الرشد، قد يسلك في حياته كما لو أنه يتملك هوية صافية ينعتها أكيدا بالأنقى والأصفى وبكل ما يمت للطهر بصلة، فنجده يدافع باستماتة عن هذه الهوية ويعتبر كل ما عداها من الهويات ناقصة أو مهددة له، إلى درجة يصل معه الأمر إلى العنف إلى حد التصفية الجسدية.

لكن لو تأمل المرء ذاته لاكتشف أن ما يسميه (الغير) المختلف هو في حقيقته يعتمل في جوفه ولو لا شعوريا. فكل إنسان في حقيقته يحمل ليس طبقة واحدة يدعي أنها هي هويته، بل في حقيقة الأمر يحمل طبقات أخرى متراصة، منها البارز ومنها المخفي الذي يكاد يظهر، وكلها هويات قادمة من عمق التاريخ الذي جاء به الآخر بأي سبيل يسمح بالتلاقح أو التثاقف بين الذات والغير سواء كان بالغزو أو عن طريق التجارة أو الترجمة.

ولتعضيد فكرة جوليا كرستيفا سأستحضر الكاتب الشهير "أمين معلوف" في مؤلفه "الهويات القاتلة" المكتوب بالفرنسية والمترجم إلى العربية من طرف "نبيل محسن" والذي يقول في مقدمته: إنه يجيب دائما عندما يسأل: هل يشعر، وهو الكاتب اللبناني الذي غادر لبنان منذ 1976م للاستقرار في فرنسا، أنه لبناني أم فرنسي؟ بكونه "هذا وذاك"! ويؤكد على أن هذا الجواب ليس فيه حرص على التوازن والمساواة وإنما لو أجاب عكس ذلك سيكون كاذبا.

فأمين معلوف لديه دائما إحساس أنه على تخوم بلدين وبلغتين أو ثلاث وتجتاح ذاته تقاليد متعددة وهذا كله هو هويته، ويضيف متسائلا: هل سأكون أكثر أصالة إن اقتطعت جزءا من ذاتي؟ فهو إذن لبناني وفرنسي معا، فالهوية وكما يردد دائما في كتابه الشيق هي نعم هوية واحدة لكن بعناصر متعددة والتنكر لهذه العناصر هو تمزيق للذات وفتح الباب للعنف على مصراعيه.

نخلص في النهاية إلى أن البصيرة الإنسانية تحتم القول بالهوية المركبة عوضا عن الهوية النقية وتكريس ذلك تربويا، وسيكون ذلك إحدى الطرق الآمنة نحو السلم الجماعي.

أستاذ الفلسفة / المغرب

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي