صراعات الرسوم الجمركية

يشهد الاقتصاد العالمي تغيرات وتوترات لأسباب على رأسها تبني الحكومة الامريكية لسياسات مضادة لاستيراد سلع كثيرة، وعلى راس هذه السياسات فرض رسوم جمركية. تزداد قوة التوترات مع تبني السياسات ضد حلفاء، وعلى رأسهم جاري أمريكا كندا والمكسيك. فرض يراه كثيرون من المتخصصين أنه جاء بصورة شبه عدائية.
ومن باب رد الفعل، وجهت تلك الدولتين تحذيرات. مثلا أكد رئيس الوزراء الكندي قبل أيام قليلة أن كندا سيكون لها رد فعل قوي وسريع على اتخاذ سياسات جمركية يراها كثيرون غير مبررة. بالمقابل، هدد الرئيس الأمريكي بتعطيل التجارة عبر الحدود مع كندا.
بصفة عامة، المتوقع أن الفرض والتغييرات سيكون لها آثار كبيرة في جوانب اقتصادية كثيرة سواء لأمريكا أو للدول الأخرى، أو على الاقتصاد العالمي كله.
آثار تلك التغييرات بدأت تظهر بالفعل في الجارة الشمالية للولايات المتحدة، كندا. في وقت يواصل فيه ترمب تهديداته، بل إنه يقترح ضمّ الدولة الكندية بالكامل. وأخيرا، قال إن الرسوم الجمركية على المكسيك وكندا قد ترتفع إلى أكثر من 25%. أوضاع وتوجهات تزيد ضبابية وتوترات الأوضاع.
وطبعا كان هناك رد فعل قوي من جانب شعبي الدولتين الجارتين. ولرد الفعل جوانب عديدة، بما في ذلك تقليل أهمية الاقتصاد الأمريكي في نظر الشعبين، وتبعا تقليل السفر إلى أمريكا. مثلا قاطع كنديون كثيرون السفر إلى أمريكا. ومن جانب آخر، يتوقع خبراء أن فرض رسوم جمركية على النفط الكندي سيعمل على رفع أسعار الغاز في أمريكا، بما يؤثر سلباً في السفر براً. في المقابل، هناك مَن يرى أن تركيز حكومة أمريكا على زيادة إنتاج الولايات المتحدة من النفط والغاز قد يخفّف من آثار التعريفات الجمركية على أسعار الغاز داخلياً.
قد يكون ذلك ممكناً، لكن تلك الزيادة في الإنتاج تأخذ وقتاً ليس بالهين، حتى تؤثر بالأسعار في محطات الوقود. والتأثر يطال حتى الذين يستخدمون سيارات كهربائية، حيث قد يواجهون صعوبات تتعلق بشحن سياراتهم.
النظر الاقتصادي الحيادي يبين أن الدول تمتلك ميزات نسبية متفاوتة بينها. وأن هذه الميزات النسبية يمكن للدول أن تستفيد منها من عدة جوانب. لكن الواقع يبين أن المشرعين في دول كثيرة يركضون خلف إجراءات حمائية، مثل فرض رسوم جمركية وقيود على كميات ما يستورد. وتبعا، هناك صراع على مدى السنين في أمريكا بين أصحاب الشأن حول ما يتخذ من اجراءات لحماية الصناعة المحلية وهكذا.
هل الحماية هي المسار الأحسن للاقتصادات؟ التفكير الاقتصادي الحيادي يقول ليس في كل حال. لماذا؟ لأن التجارة الحرة المفتوحة توسع من قدرات الدول على الإنتاج والاستهلاك، وتحسن مستوى المعيشة عالميا. لكن طبعا هذا التفكير مواجه بالتوجهات نحو حماية الصناعة والأنشطة المحلية من المنافسة الخارجية.
المؤيدون للحماية يرون أن الأصلح هو التضحية لتحقيق أهداف دعم الإنتاج المحلي. وهناك أهداف غير اقتصادية للحماية. على رأسها الأمن القومي وتقوية الحماية تجاه البيئة والتقاليد والموروثات الثقافية، واليد العاملة المحلية. بالمقابل، قد تجلب الحماية أضرارا. مثلا قد تتسبب الحماية وخاصة ذات الطابع التقني في إضعاف التطوير المحلي وخاصة التقني. مثلا فرضت دول قوانين ضد أجهزة حاسب مستوردة، بهدف حماية الإنتاج المحلي. لكن كان من النتائج غير المرغوبة تخلف المستوى التقني للإنتاج المحلي.
حماية التوظيف وتقليل العطالة كانت من أهم أسباب فرض قيود ورسوم جمركية على الاستيراد. كيف؟ لأن الحماية ترفع سعر المستورد، وبالمقابل تزيد الطلب على المنتج محليا. طبعا من نتائج ذلك زيادة الطلب على التوظيف. لكن تحليلات الاقتصاد الكلي تبين أن هناك سياسات بديلة لخفض العطالة، مثل تبني سياسات نقدية ومالية عامة بصورة حكيمة، ومثل استخدام سياسات اقتصادية كلية تعطي ميزات نسبية لقطاعات ووظائف أعلى إنتاجية وهكذا.
باختصار، هناك عبر السنين صراعات بين منافع التجارة الحرة ومنافع فرض الحماية. تطلب الحماية بصورة أقوى في حال فترات ضعف نمو الاقتصادات، لكنها أي الحماية تعمل على رفع الأسعار، وقد تزيد من الضعف الاقتصادي. ولذا يرى كثير من المحللين أن التركيز ينبغي على حماية مؤقتة لصناعات خاصة ذات الطبيعة الوليدة. لماذا؟ حتى تعطى الفرصة لتحقيق ميزة نسبية على المدى البعيد.
وبالنظر إلى ما تجره الحماية من أضرار مقابل المنافع، شهد العالم وحكوماته عبر عشرات السنين الماضية مفاوضات طويلة عريضة تجاه تحرير التجارة. لكنها تشهد شدا وجذبا بين وقت ووقت.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي