احذر السقوط «في فخ» الخلط بين زكاة ورسوم الأراضي

أبدأ من حيث انتهى إليه أحد الباحثين الشرعيين في بحث له حول فرض الرسوم "الغرامات" على الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني للمدن والمحافظات، حيث قال: مسألة فرض رسوم سنوية على الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني من المسائل المعاصرة المستجدة، وتعد من النوازل الفقهية المعاصرة، التي تتعلق بالسياسة الشرعية والقواعد العامة في الشريعة الإسلامية، تحقيقا لمناط الشريعة ومقاصدها الشرعية والمصلحة العامة.
استشهد الباحث بقصة عمر بن الخطاب وبلال بن الحارث - رضي الله عنهما، حيث أقطع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلالاً أرضاً كبيرة "العقيق"، ووجد عمر - رضي الله عنه - في عهد خلافته أن بلال لم يقم بإحياء تلك الأرض، ورأى الخليفة - رضي الله عنه - أن تحقق المصلحة بتوزيع الأرض على المسلمين إذا عجز بلال عن الإحياء، وعرض الأمر على بلال بقوله: خذ ما تستطيع إحياءه، واترك الباقي تدفعه لمن ينتفع به، وعلل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هذا الفعل بقوله: لم يقطعك الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتحجزه عن الناس، لم يقطعك إلا لتعمل، فانظر ما قويت عليه منها فأمسكه، وما لم تطق فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال بلال: لا أفعل والله، شيء أقطعنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر: "والله لتفعلن" فأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين.
وأكد الباحث أن ما قام به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة إقطاع بلال بن الحارث هو مقتضى السياسة الشرعية، فإذا قام عمر بن الخطاب بهذا، وقد أقطعه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن من أخذ غرامة مالية لمن ملك أرضاً ولم يقم بإحيائها من باب أولى.
يتورط البعض بقصد أو دون قصد، في الخلط بين الزكاة من جانب، ومن جانب آخر عزم الدولة على فرض رسوم على الأراضي السكنية الواقعة داخل النطاق العمراني للمدن والمحافظات، والخطر كل الخطر ممن يريد الخلط بين الأمرين لمآرب في نفسه، ودفعاً لما سيكون هو أول من يطبق عليه هذين الأمرين "الزكاة، والرسوم والغرامات".
إنها محاولة فاشلة للتهرب أولا من إجراء ستقوم به الدولة في ضوء الشريعة الإسلامية، ودون الخروج عن مقاصدها السمحة، المتمثل في فرض رسوم على الأراضي السكنية الواقعة داخل النطاق العمراني للمدن والمحافظات، وزعمه أن الزكاة تقوم مقام هذا الإجراء! وهو ما لم يفعله سيدنا عمر - رضي الله عنه - في القصة أعلاه، وهل كان بلال بن الحارث عاجزاً عن الاحتجاج بأداء الزكاة الواجبة عليه، دفعاً لما عزم عليه أمره الخليفة الثاني؟ ولم يفعلها بلال- رضي الله عنه - على الإطلاق، رغم استقطاع ما عجز عن عمارته أمام عينه وفي حياته.
ثانياً؛ أنه في مرحلة تالية في حال نجح أصحاب هذه المقولة الماكرة "الاكتفاء بالزكاة عوضاً عن الرسوم"، رغم الفوارق الشاسعة بين الأمرين، سيأتون بحجة أنهم يخرجون زكاة أراضيهم كل عام بأنفسهم، وأنهم ينفقونها على من يستحق، وليسوا في حاجة إلى أن يحصلها أحد منهم، حتى وإن كان المحصل هو الدولة! ومن ثم نعود إلى نقطة "الصفر"، فلا زكاة تم استحصالها، ولا رسوم "غرامات" تم استقطاعها، ولتبق مخالفات احتكار الأراضي بمساحات شاسعة، والتشوهات التي تخلفها وراءها، تعبث أيما عبث بمقدرات البلاد والعباد، دون أي رادع لها من قريب أو بعيد.
ينظر أكثر من 20 مليون مواطن سعودي إلى الاجتماع القادم لهيئة كبار العلماء برئاسة المفتي العام للمملكة، في دورتها الثمانين يوم الأحد القادم، بسقف مرتفع جدا من التفاؤل، أن يتم تأييد لائحة "فرض رسوم على الأراضي السكنية الواقعة داخل النطاق العمراني للمدن والمحافظات"، المعدة من وزارة الإسكان، لما فيه من تحقق للمصلحة العامة للبلاد والعباد، ودفعا للأضرار الفادحة التي لحقت بالاقتصاد الوطني، وعموم أفراد المجتمع، جراء احتكار الأراضي بمساحات شاسعة، وحجبها عن الاستخدام والانتفاع والتطوير والسكن، رغم أن الدولة أنفقت تريليونات الريالات على البنى التحتية من طرق وخدمات بلدية واتصالات وكهرباء إلخ. إلا أن تلك الأراضي بمساحاتها الشاسعة داخل المدن والمقدر استحواذها على نسب تراوحت بين 45 في المائة إلى 70 في المائة من المدن الآهلة بالسكان، لم يطرأ عليها أي استصلاح أو انتفاع أو تطوير، بل بقيت خالية من كل ذلك، لتتحول إلى مجرد مخزنات ثروات هائلة، يقدر تجاوز أثمانها المبالغ فيها بأسعار الوقت الراهن بأكثر من 9.0 تريليونات ريـال، وهو ما يتجاوز ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد الوطني!
بل زاد الأمر سوءا؛ أن جزءا كبيرا منها تحول إلى مجرد أراض بيضاء يتم تداولها وتدويرها بين المقتدرين وأصحاب الثروات، بحثا عن تحقيق مكاسب سعرية لا تقدم أي منفعة تذكر للاقتصاد والمجتمع، وفي الوقت ذاته تسببت في استمرار وتيرة ارتفاع أسعار الأراضي في المملكة، ما أوصلها إلى سقوف سعرية مرتفعة جدا، أصبحت بعيدة المنال حتى على أصحاب الدخول الثابتة المرتفعة، دع عنك متوسطي ومحدودي الدخل الذين لم يعد لديهم أي بارقة أمل في تملك قطعة أرضٍ محدودة المساحة، ولتعلم أي وضعٍ وصلنا إليه؛ يكفي أن تقارن بين سعر متر واحد فقط تجاوزت قيمته 3000 ريـال في مدينة الرياض أو جدة أو الخبر، وبين المتوسط العام لأجور السعوديين البالغ 6959 ريالا شهريا (متوسط أجر الموظف في القطاع الحكومي 7956 ريالا شهريا، ومتوسط أجر الموظف في القطاع الخاص 4748 ريالا شهريا).
لقد أرهقت الأوضاع الخطيرة جدا التي وصلت إليها أسعار الأراضي جميع الأطراف إلا "حفنة" ضيقة جدا من "تجار التراب"، وأصبحت الأراضي والمساكن بأسعارها المرتفعة الراهنة أكبر مهدد للأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، وإن لم تتم السيطرة على هذا الصعود الجنوني للأسعار في أقرب وقت، فإنه يؤذن بمزيد من ارتفاع خطرها على الأمن الوطني برمّته، وهو ما لا يمكن أن يتجاهله على الإطلاق الأعضاء الموقرون في هيئة كبار العلماء، حتى وإن كان بعضهم يمتلك شيئا من حطام تلك الأراضي، وهو ما اعتدناه منهم بحمد الله في أوقات سابقة؛ أن يتم الفصل التام بين المصلحة الشخصية والمصلحة العامة، على عكس بعض من علماء الدين الذين وقعوا في هذا الخلط الخطير بين المصلحتين المتعارضتين!
إن الأسعار المجنونة التي وصلت إليها الأراضي، وما يصاحبها من "تهديدات صريحة" باستمرار ارتفاعها من قبل "تجار التراب" دون النظر للعواقب الوخيمة على الأمن الوطني، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك؛ أنها اليوم "البوابة الأوسع" لإلحاق أكبر الشرور والأذى بمقدرات الوطن سياسيا واقتصاديا واجتماعياً وعلى مستوى الأبعاد الأخرى كافة، وأنها المصدر الأول للخطر المهدد للأمن الوطني، فهل تثبت هيئة كبار العلماء موقفها المسؤول تجاه الوطن بأسره؟ الذي يتوافق بالتمام والكمال مع الشريعة ومقاصدها الشرعية والمصلحة العامة؟ هو ذاك المتوقع منها والمأمول دون قيد أو شرط أو تأجيل. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي