العامل الديني كمولد للعنف
دعنا نضع عضوا في "داعش" أو نصيرا لها على طاولة المقارنة مع أشخاص آخرين من البيئة نفسها أو البيئات القريبة، كي نبحث في الصفات الثقافية والنفسية والسلوكية التي تميز كلا منهما عن الآخر، ثم نستقصي مصادر تلك الصفات. ثم نسأل أنفسنا: لماذا أثرت تلك العوامل في الشخص الأول دون الثاني، أي ما المتغيرات التي تحدد مستوى أو توقيت بروز النمط الداعشي؟
هذا الاستقراء الذي يستدل بالظاهر على الباطن لا يستهدف تحديد العوامل المولدة للشخصية العنيفة، بل عزل العوامل المشابهة التي تسهم في خلط الصورة، وتمييزها عن المتغيرات المساعدة أو المعاكسة. العوامل المنتجة للنمط الداعشي يمثل كل منها علة تامة، إذا وجدت فسوف تنتج قطعا ذلك النمط، أما العوامل الشبيهة فلا تلعب هذا الدور ولو تماثل ظاهرها مع العوامل السابقة. كذلك الحال بالنسبة للعوامل المتغيرة التي تلعب دورا مساعدا فحسب، رغم أن وجودها ضروري لإنتاج النمط أو الحيلولة دونه.
الداعي لهذا الكلام هو شعوري بأن النمط الداعشي لم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه من جانب الباحثين السعوديين في علم الاجتماع وعلم النفس. معظم معرفتنا بهذه الظاهرة ثمرة لمقالات صحافية أو كتابات أجنبية. وكلاهما لا يرقى إلى مستوى البحث المتناسب مع أهمية الموضوع وخطورته. أجد أن كلا الصنفين متأثر بمواقف سياسية مسبقة، وكلاهما يركز على "دور التدين" في خلق النمط المذكور.
هناك بالطبع عناصر أخرى تذكر أحيانا كتفسير لبروز الشخصية العدوانية. لكني أشعر أن المبالغة في التركيز على عنصر التدين خاصة أثمر عن تشويش فهمنا للموضوع. أني مدرك لأهمية الأيديولوجيا في تحديد سلوكيات الأفراد، وأثر الإيمان والتدين في تبرير تلك السلوكيات وشحنها بقيمة متجاوزة للمعايير المادية والدنيوية. لكني - مع ذلك - أشك بقوة في دعوى أن التدين أو الأيديولوجيا هي العامل المولد للنمط الداعشي. أعلم أن منهجا دينيا محددا (السلفية المتطرفة مثلا) ارتبط بالنمط المذكور، لكن من الضروري التساؤل: هل هذه علاقة علة بمعلول، أم هو متغير مشروط بعامل أو عوامل أخرى؟
لو كان ارتباط علة ومعلول لوجب أن يترتب على كل الحالات نتيجة مماثلة. لكنا نعرف آلافا من الناس يتبنون المنهج ذاته وهم يعارضون النمط الداعشي. هذا يشير إلى وجود عوامل أخرى. أو ربما يدل على أن التدين هو عامل مساعد أو متغير وليس علة. كذلك الحال في الظروف الاقتصادية التي أظنها أكثر أهمية من العامل الديني في توليد الأنماط السلوكية. فالأمثلة التي لدينا تؤكد أنها ليست - بمفردها - علة تامة.
مرة أخرى فإن الغرض من هذه التساؤلات هو دعوة الباحثين إلى دراسة الظاهرة كموضوع علمي يستدعي بحثا مجردا ولو لم نصل إلى نتائج قابلة للتطبيق، وبغض النظر عن المواقف والتوجهات السياسية.