الدبلوماسية الشعبية .. لا للبداية من الصفر
أختتم اليوم سلسلة المقالات، بشأن ما توصل إليه كبير المحللين السياسيين في مشروع الأمن الأمريكي AMERICAN SECURITY PROJECT الباحث ماثيو ولين Matthew Wallin وفريقه العامل معه، حول القواعد العشر الأساسية لتعزيز تطبيقات الدبلوماسية الشعبية، والرفع من فاعليتها، التي أراها نقلة نوعية في مجال العمل الدبلوماسي الشعبي، أو (الدبلوماسية العامة) "Public Diplomacy"، حيث تناولت في المقالتين السابقتين سبعا من هذه القواعد بشكل مختصر، وبتصرف، وأستكمل هنا القواعد الثلاث الأخيرة.
لقد شدد "ولين" وفريقه العامل معه، بعد مراجعة النتائج التي توصلوا لها، شددوا على ضرورة وأهمية استخدام القوة المزدوجة (المضاعفة) عند ممارسة الدبلوماسية الشعبية، وذلك بخفض التكاليف، ورفع الفاعلية. وعليه فإن على الممارسين للدبلوماسية العامة (أو الشعبية) أن يتساءلوا بداية: من يقوم حاليا بهذا العمل؟ ما الشبكات الموجودة بالفعل؟ من هم الشركاء المحتملون؟ كيف يمكننا الحصول على رسالة فورية عبر الأدوات المتوافرة فعليا في الميدان؟
في كثير من الأحيان، قد لا يكون الممارسون للعمل الدبلوماسي هم الأفضل جاهزية لأخذ زمام المبادرة في تنفيذ حملة التواصل هذه، أو تلك. وهنا يجب تحديد الشركاء، ومعرفة ما إن كان لديهم القدرة على تحمل بعض المسؤوليات في هذا الشأن. فقد تكون المنظمات غير الحكومية تقوم بالفعل وعلى أرض الواقع بأعمال مشابهة أو مكملة للهدف المراد تحقيقه. وبالتالي فمن المستحسن استغلال مثل هذه الموارد وتحسينها ودمج الجهود، بدلا من إنشاء حملة مستقلة.
وفي أحيان أخرى، قد تكون مضاعفات القوة من خلال الاتصال بعدد من الأفراد من أصحاب النفوذ في مجتمع معين. ويمكن اعتبار هذه النخب بحد ذاتها هي الجمهور المستهدف، أو هي الأنسب للتخاطب مع الجمهور المستهدف كونها أكثر مصداقية أو أفضل تجهيزا لنشر الرسالة المقصودة، أو في وضع يمكنها من التأثير في الجمهور المستهدف أكثر بكثير من التواصل مباشرة مع ذلك الجمهور من قبل العاملين في الدبلوماسية الشعبية. كما أنه في كثير من الأحيان، نجد لدى النخب شبكاتهم الخاصة التي يمكن الاستفادة منها للوصول إلى جمهور أوسع. وتجدر الإشارة هنا إلى أن النخب ليست بالضرورة أن تكون نخبا إعلامية أو سياسية، فقد تكون نخبا فنية، أو رياضية أو دينية، وغيرها.
كما أن وسائل الإعلام هي قوة مضاعفة أخرى، تقليدية، سواء كان ذلك التلفزيون والراديو، أو الطباعة والنشر، أو حتى وسائل الإعلام الجديدة. إذ تسمح هذه المنافذ بأن يتم، وعلى الفور، نشر صوت البلد صاحب الرسالة إلى جماهير أوسع بعيدة المنال. كما أن مقالات كتاب الرأي وتقارير الصحافيين في كثير من الأحيان تحمل وزنا مؤثرا وكبيرا، بل قد تعد في بعض الحالات الوسيلة الوحيدة للوصول إلى قطاعات من الجماهير المستهدفة، وبالتالي فإن بناء علاقات ايجابية مع الصحافيين، ينطوي على جزء مهم من الاستفادة من قوة وسائل الإعلام، لذا يجب أن يدرك الممارس للعمل الدبلوماسي الشعبي أن هذه العلاقات مفيدة للطرفين، حتى ولو كانت لهجة الصحافيين في بعض الأحيان حادة، إذ إن من وظائفهم طرح الأسئلة الصعبة، ومن وظائف الدبلوماسيين الشعبيين الجاهزية التامة للإجابة عن تلك الأسئلة، فإن كانت مشاركة الدبلوماسي الشعبي لا تصمد أمام التمحيص والاختبار، فإنه لا بد من تصحيحها. وبالتالي، يمكن أن ينظر للصحافيين على أنهم وسيلة قياس، وضمانة لخروج الرسالة من جهاز العمل الدبلوماسي الشعبي على أفضل وجه ممكن. "إن الفكرة من وراء مضاعفة القوة، هي في نهاية المطاف، أن تفعل أكثر بجهد ووقت وتكاليف أقل". أي أنها تعظيم للكفاءة والفاعلية في أي حملة دبلوماسية شعبية.
القاعدة التاسعة التي توصل لها الباحثون تتمثل في ضرورة عدم البدء من نقطة الصفر، وإعادة البناء من جديد، بل هو التطوير لما هو قائم فعلا، إذ لا يوجد سبب منطقي مقنع يدعو لوضع قناة اتصال جديدة كليا عندما تكون هناك قناة موجودة بالفعل، ولها فرصة أفضل للوصول إلى الجمهور المستهدف، بأقل تكلفة ممكنة. فمن الصعب للغاية تغيير تفضيلات العرض والمتابعة المتأصلة لدى الجمهور. فإذا كانت برامج الدبلوماسية الشعبية تنطوي على القيام بعمليات تكرار لشيء موجود بالفعل، أو الشروع بتوفير بديل جديد للجماهير، فيجب أن يكون هناك "سبب قوي مقنع وموثوق به تتم من خلاله القدرة على شد الأفراد والنجاح في تبديل قناة الاتصال التي ألفوها ولا تزال تشد انتباههم". ولنأخذ المثال من جهود الولايات المتحدة لتأسيس وسيلة إعلامية مؤيدة لها في الشرق الأوسط، التي تكافح حاليا، من أجل إثبات الوجود ومنافسة وسائل الإعلام الأخرى التي قد أنشئت بالفعل. ففي تحليل للجهود التي تبذلها قناة الحرة، ذكر مركز USC المتخصص في الدبلوماسية الشعبية: "أنه وفي حقبة جديدة من انتشار القنوات الفضائية في العالم العربي، فإن القنوات الإخبارية الفضائية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة أو الدول الغربية الأخرى هي في وضع تنافسي سيئ، لأنها ليست ذات مصداقية مثل الجزيرة أو العربية مثلا". وعلاوة على ذلك، فإن عرض الأخبار على قنوات إخبارية عربية محلية يعكس العاطفة المناسبة تماما للجمهور ويشعره بحماس تجاه كثير من القضايا والأحداث التي تبرزها القناة. ورغم أن هذا يمثل تحديا خطيرا لمفهوم الإذاعة الدولية، فإنه لا يعني بالضرورة أن يتم التخلي عن جهود "البث الدولي". وبدلا من ذلك، في بيئات التنافس الشديد، يتعين على الدولة صاحبة الجهد الدبلوماسي الشعبي تركيز الجهود على المؤسسات الموجودة بالفعل التي هي أكثر مصداقية لجمهور أوسع، وذلك من خلال "تكثيف المشاركات من قبل المتخصصين في مثل هذه القنوات الاتصالية ذات الشعبية العالية، والمصداقية لدى الجماهير المستهدفة".
أما "تحديد الوسيلة المناسبة"، فقد جاء عاشرا ضمن هذه القواعد الأساسية، حيث جلبت التكنولوجيا الحديثة مجموعة متنوعة من أدوات الاتصال عبر وسائل عديدة. فمن الأشكال التقليدية، كالتلفزيون والصحافة، إلى أحدث الأشكال، كشبكات التواصل الاجتماعية، وبالتالي فإن للممارسين للعمل الدبلوماسي الشعبي عدد لا يحصى من خيارات التواصل مع الجماهير. مع الأخذ في الاعتبار أنه حين تكون الإنترنت عاملا مهما في الاتصالات الحديثة، فإنها قد لا تكون كذلك في بيئة أخرى، أو ظروف أخرى. كما أنه ينبغي عدم الاعتماد عليها كوسيلة وحيدة لنشر الرسالة. فبحسب خصائص الجمهور المستهدف، وتحليلنا لبيئته، يمكن تحديد الوسيلة الأفضل للوصول إليه. ففي الصين على سبيل المثال، يبرز جليا "جدار الصين العظيم للحماية" الذي يحظر الوصول حاليا إلى مجموعة متنوعة من المواقع، بما في ذلك محركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعية. وإيران مثال آخر. عليه فإنه من الأهمية بمكان تحديد الوسيلة، أو مزيج من الوسائل، التي هي الأنسب للوصول إلى الجمهور المستهدف. والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعية لديها بالتأكيد مكانها ضمن نطاق الدبلوماسية الشعبية. وينبغي الاستفادة منها للتواصل على أساس اتجاهين. فهي أدوات ممتازة للربط مع شرائح محددة من السكان الذين هم في تناغم مع تلك الأنواع من الوسائل. ومع ذلك، يمكن دمج هذا الأسلوب وتطويره بشكل ثنائي الاتجاه وصولا إلى التفاعل الشخصي مع الناس، الذي له الأثر الأكبر في تشكيل النتائج.