الأمن الوطني والصورة الذهنية في عصر المعلومات
تناولت في مقالات سابقة، موضوع الدبلوماسية الشعبية، أو الدبلوماسية العامة، بحسب الترجمة الحرفية للمصطلح الأجنبي "Puplic Diplomacy"، وتطرقت لمدى أهمية العمل عليها بشكل أكثر فاعلية، وجدية، ووفق تخطيط مبني على دراسات وأبحاث معمقة، لما لها من تماس مباشر بالأمن الوطني. وأنها أضحت، في هذا العصر الموسوم بالمعلوماتية، حاجة حيوية ملحة، ترتبط بالمصالح الحيوية للدولة "Vital Intersts"، وأن حقل العمل الدبلوماسي الشعبي واسع جدا، ومتشعب، ومتنوع المجالات، إلا أن أهم، وأخطر، ما يجب العمل عليه ضمن هذه المجالات المتعددة، وما ينبغي التأكيد عليه مرارا، هو السمعة الوطنية National Reputation، والصورة الذهنية Image للدولة وشعبها، عند الشعوب الأخرى، وهذه بحد ذاتها عملية معقدة، وطويلة، وتحتاج إلى تضافر الجهود العلمية، والشعبية قبل الرسمية، للعمل على تعزيز الصورة المشرقة، ومحاولة إزالة الغموض أو الصورة المغلوطة التي قد تكون تشكلت في ذهنية الآخرين تجاهنا، إما جراء اختلاف القيم والمفاهيم والثقافات بين الشعوب، وإما بسبب دعاية مسيئة مغرضة ومتكررة.
وبمراجعة عامة للدراسات العلمية في هذا المجال يتأكد بما لا يدع مجالا للشك، مدى هذه الأهمية البالغة للسمعة الوطنية والصورة الذهنية وارتباطاتهما الوثيقة بالدبلوماسية الشعبية، والأمن الوطني، وازدياد هذه الأهمية بشكل لافت خاصة في زمن تدفق المعلومات من كل اتجاه حول العالم عبر تقنيات الاتصال، السريعة التطور والنمو.
لقد أصبحت هذه الأهمية من المسلمات في مجالات بحوث الدبلوماسية الشعبية، حيث يستشهد "زهانج" و"بينويت" JuyanZhang, William L. Benoit, في دراستهما المعنونة بـ "استراتيجيات رسائل حملة ترميم صورة المملكة العربية السعودية بعد أحداث 11/9" بما توصل إليه كل من "جيفارد" و"ريفونبورج" Giffard, & Rivenburgh وما سبقهما إليه "كونزيك" Kunczik بأن للأمم صورا ذهنية، وأن العلاقات ما بين الدول دائما ما كانت تتشكل بناء على هذه الصور.
وقد أبرز الدكتور عثمان العربي زبدة ما توصل إليه كونزيك من نتائج وفرضيات في هذا المجال في دراسته الموسومة بـ"صورة المملكة العربية السعودية في وسائل الإعلام الأمريكية"، إذ كان أهمها الفرض القائل إن كل مجهودات الدول في "الدبلوماسية الشعبية" تستهدف إيجاد صورة إيجابية، والهدف من هذه الصور الإيجابية هو تحقيق "الثقة trust" و"الموثوقية credibility" في الدولة، وإن هذه الثقة مهمة للأهداف السياسية أو التصديرية أو استقطاب رؤوس الأموال أو السياحة وغيرها.
وهو ما أكدته بشكل أكثر تفصيلا دراسة "جين وانج" المعنونة بـ "إدارة السمعة الوطنية والعلاقات الدولية في عصر العولمة: إعادة النظر في الدبلوماسية الشعبية" Jian Wang إذ ذهب في القول إلى أن للسمعة الوطنية تأثيرها الفعال في المعاملات الدولية. مستشهدا بقول جيرفز jervis إن استخدام الصورة "Image "أو السمعة" Reputation " أعظم من استخدام القوة العسكرية أو الاقتصادية. ولهذا يذكر ناي Nye مصطلحه الشهير (القوة الناعمة) الذي وسع من دائرة النقاش حول تصنيفات القوة الدولية التي كانت مطروحة في السابق والمتضمنة القوة العسكرية، والاقتصادية، وقوة العبور للرأي العام. فبحسب ناي فإن مصطلح "القوة الناعمة" يعود إلى "القدرة الحصول على ما تريد من خلال الجاذبية لا من خلال الإكراه والإرغام أو المكافأة المالية. هذه الجاذبية التي تقوم على ثقافة البلد، والأهداف والمقاصد السياسية النبيلة، والسياسات على أرض الواقع التي تؤكد نبل هذه المقاصد". وقد تعددت وتحولت مصادر "القوة" لتصبح انعكاسا للعلاقة بين القوة الصلبة والناعمة.
ويرى وانج Wang أن العولمة أفرزت علاقات عالمية متبادلة قائمة على التكنولوجيا الحديثة في المعلومات والاتصال، أدت إلى ظهور نوع جديد من الجماهير في المشهد الدبلوماسي العالمي، باتت تعرف بالجماهير غير المرئية. وبالتالي، فإن المطلوب اليوم من الدولة القومية – بحسب وانج- إدماج أصوات تلك الجماهير العابرة للحدود الوطنية في عمليات صنع القرارات المتعلقة بالسياسات العامة. كما أن هذه العلاقات العالمية المتبادلة المتزايدة والتواصل بين الشعوب جعل قيمة وسائل الإعلام الجديد في الدبلوماسية الشعبية أكثر أهمية. فطبقا لإحصائيات عام 2012 فإن الأغلبية العظمى من دول العالم يتوافر فيها الوصول إلى الإنترنت، وأن أكثر من مليارين و400 مليون شخص في جميع أنحاء العالم نشطون على الإنترنت. نتيجة لذلك، فإنه لا يمكن للحكومات الدولية القومية تجاهل تأثيرات وإمكانات شبكة الإنترنت فيما يتعلق بالدبلوماسية الشعبية الفعالة مع الجمهور العالمي.
ويخلص "وانج" في دراسته إلى أن السمعة الوطنية والصورة الذهنية هي التي تحدد مدى القوة الوطنية. كونها تعكس وتؤثر في مدى التفهم العالمي لدولة ما، إذ قد يكون لها القدرة – على سبيل المثال - على بناء الائتلافات والأحلاف لتحقيق الأهداف السياسية على الصعيد الدولي، أو التأثير في التصورات واتخاذ القرارات بشأن شراء المنتجات من بعض بلدان المنشأ، أو لجذب الاستثمارات الأجنبية. ويركز "وانج" على دور السمعة الوطنية في السياسة والعلاقات الدولية، وانعكاساتها على الدبلوماسية الشعبية. سيما أنه يرى – وفق ما توصلت إليه نتائج دراساته العديدة في هذا المجال - أن من السذاجة اعتبار أن الرأي العام، المحلي أو الأجنبي، يمتلك دائما وجهة نظر مبنية على معلومات مؤكدة، أو رأيا متماسكا بشأن المسائل ذات الصلة بالقضايا السياسية الوطنية والأجنبية. كما أنه يرى أن الصلات المباشرة والفعالة بين الرأي العام والسياسات ليست موجودة دائما، ومع ذلك فإن للأفراد – متى ما عبروا عن وجهات نظرهم – دورا في تشكيل مناخ للرأي العام، الذي بدوره يضغط على سياسات صانعي القرارات.
وأنه متى ما كان الرأي العام نشطا مكونا مناخا واضحا له، فيمكن لهذا المناخ أن يحد أو يوسع من الخيارات السياسية والإجراءات المزمع تبنيها. وعليه فإن التصورات والآراء التي تبنتها الشعوب الأجنبية حول بلد ما تصبح ذات أهمية حاسمة لاتخاذ القرارات من قبل الدولة التي ينتمون إليها. وبالتالي فإن إدارة تدفق المعلومات تجاه الشعوب هو مجال الدبلوماسية الشعبية، سيما أن العالم الجديد لا يزال يحمل مزيدا من التقدم في تقنيات الاتصالات والعولمة، لكن ممارسة الدبلوماسية الشعبية ما زالت تحتاج إلى إعادة نظر وإعادة تقييم.