عِمارة العقل ..
تأمل : إن أعظم ما يمكنه أن يعمّر عقلك هو القراءة، لا أقصد تلك القراءة الهشة، أو المختارة والمنتقاة. إنما أقصد القراءة التي تبنيك، تنسف مفاهيمك لتتقبل التغيير والتطوير وتشرع من بعدها في تأسيس بناء رسالتك الخاصة التي ستنهض بها من أجل أن تصنع نفسك أولاً ومن ثم تعمل بصناعة ذاتك لصناعة عقول تصل إلى مستوى إدراكك لتساند رسالتك وتعمل بها بصدق وثبات فعلي.
- في كلّ مرة أحدث بها نفسي عن أولئك الذين يظنون أن القراء يعيشون في وحدة أو عزلة وفرق كبير بين الوحدة والعزلة.
لأن من يعتزل كمن يغطي جرحًا أو يواري وجعًا أو يحاول أن يدثر فقدًا يخشى أن يتكشف أو أن يتعرى إن خرج للعالم.
إن الوحدة ليست كما يعتقد البعض أنها شيئا مرهقا ومؤلما، إنما هي قمة الحرية، وقمة الوصول إلى التصالح مع الذات الداخلية بحبّ متزن ووعي عميق.
لأن وحدتك تعني أنك الكل الشمولي بينما عزلتك تعني أنك الهارب من أمر معين أو وجع داخلي.
حين تصل لمستوى التناغم مع وحدتك والارتياح لكونك تحتاج وقتا خاصا مع نفسك تمارس فيه كلّ ما لا يمكنك ممارسته مع البشر.
ستصل عندها لنقطة مهمة وهي حُبّ القراءة والإختلاء بالنفس من أجلها.
لا أقول أن لا تقرأ وأنت مع الناس، لأننا نستطيع القراءة في كل مكان، في الطائرات، والمطارات، والحدائق، والشوارع، والمحطات..
ولكنك تحتاج أن تقرأ وحيدًا دون صوت، بعيد عن كل ذي بشر، مسترخيا ومنسجما مع عقل آخر يحدثك بحب. ويدهش عقلك وقلبك مع كل سطر.
إن القراءة هي أعظم غذاء تمنحه عقلك لعمارته، وتطعمه روحك لسكونها وسلامها وانسجامها، وتعانق بها غرباء لم تعرفهم إلا عبر الأحرف التي أذابت قلبك بحميمية تجعلك تتمنى أن تلتقيهم، وكم تمنيت لقاء كتّاب جعلوني أتجدد مع كلماتهم وصنعوا قوراب وعي منحتني تأملات طويلة.
وأذكر كتابًا طال تأملي له لمدة ثمانية أشهر متتالية.
كتاب "مهزلة العقل البشري" لعلي الوردي.
وأعظم اقتباس أثار تأملي فيه وأعاد صياغة مفاهيمي ناحية القراءة:
""إن الذي لا يفارق بيئته التي نشأ فيها ولا يقرأ غير الكتب التي تدعم معتقداته الموروثة، فلا ننتظر منه أن يكون محايدًا في الحكم على الأمور"
وأعرف قراءً كُثرًا لا يقرأون إلا في لون واحد، وجانب حياتي معين، ولا أشعر بالتجدد حين ألتقيهم فالأفكار هي ذاتها نفس الأفكار في كل مرة، والوعي هو ذاته بل وربما يتوقف وينخفض!
لا أقول أرغم نفسك على قراءة ما لا تريد ولا تحب، ولكن حبب نفسك، ووازن في قراءتك واجعلها متنوعة وشمولية كي يحصل الهدف المنشود منها.
والهدف المنشود الذي أقصده ممتدٌ لعدة خطوط وخيوط أعظمها وأهمها هو حكمتك وإتزانك وهدوءك، لأن القراء تجدهم غالبًا يتصفون بالعمق الهادئ والشخصية الحكيمة والمتروية والتي لا تحكم على الظواهر ولا تتهور في أمور تعلم مسبقا أنها لا تناسبها.
إن القارئ كلما قرأ أكثر كلما اتسعت دائرة الوعي لديه، ودائرة الثقافة، ودائرة إلتماس العذر حتى!
لأنه عاش قصة سنوات في بضع ساعات، وقرأ عصارة عقول تعبت من أجل إخراج كتاب أتمّ قراءته في أيام معدودة.
إن القارئ يختصر الوقت والحكمة والرؤية على نفسه وعلى من حوله.
وتذكر أنك في كل كتاب تقرأه تحتاج إلى فلترين. فلتر ديني ينقح لك مالا يتناسب مع شريعة الدين القويم، وفلتر شخصي ينقح لك مالا تراه مناسبا لك.
وفلترك الشخصي ينبغي أن يكون واعيًا ومرنًا فلربما كان هناك أمر لا تراه مناسبا في وقت ويصبح مناسبا وجدًا فيما بعد ذلك الوقت.
إنك حين ترافق الكتب ستعي معنى أن القراء لا يقلقون من وحدتهم التي ربما تكون محببة دون تصريح منهم بذلك.
إنك ستصل بالقراءة إلى عوالم عدة، وستزور مدنًا رائعة، وتعشق أشخاصًا لا تعرفهم، وتبكي لمفارقة من عايشت معهم أجمل اللحظات.
ستتذوق جمالاً لا أستطيع وصفه إلا لمن ذاق مجالسة الكتب وصاحبها.
عمّر عقلك بمصاحبة كتاب يبنيك بقوة تعيد تشكيل وعيك، وصافح الأوراق كما تصافح أغلى صديق.
وانتظر أن يثمر الداخل لديك بما سيتجلى للعالم بعد كلّ مرة تقرأ بها. صدقني أن قراءة سطر واحد أحيانًا تجعلني أكتب عشرات الصفحات.
فانسيابية الكلمة لديك تبدأ من القراءة وافتقارك لها ما هي إلا رسالة صغيرة تقول: "اقرأ".