العقود الآجلة تتنبأ بمسار أسعار النفط لعام 2015
جيوش من الحكومات والشركات والأفراد يتعاملون بالنفط بشكل أو آخر يومياً، ويبذلون جهوداً كبيرة في محاولة معرفة اتجاه أسعار النفط على المديين المتوسط والبعيد. هناك نماذج رياضية معقدة تستخدم في التنبؤ بمستويات العرض والطلب على النفط بناء على معطيات متنوعة، اقتصادية وسياسية واجتماعية. غير أن الأسعار تتحدد على أرض الواقع من قبل البائعين والمشترين، من متحوطين ومضاربين في أسواق عقود النفط الآجلة. لا يمكن معرفة المستقبل بأي حال من الأحوال، ولكن ربما أفضل تقدير لمستويات الأسعار بنهاية عام 2015 نجده في ملخص قرارات المشاركين في السوق الآجلة، وهي متاحة بشكل فوري في أسعار هذه العقود. فماذا تقول السوق الآجلة عن أسعار النفط بنهاية عام 2015، وماذا نعني بالسوق الآجلة؟
أولاً، عندما نتحدث عن النفط فنحن نقصد النفط المادة الخام المستخرجة من باطن الأرض، والتي تختلف في تركيبتها الكيماوية حسب موقع استخراجها حول العالم. فنجد أن من أفضل أنواع النفط ذاك النفط الحلو الخفيف المستخرج من غرب ولاية تكساس الأمريكية وجنوب ولاية أوكلاهوما، وهو النفط المستخدم في تسعير عقود النفط حول العالم، ينافسه في ذلك خام برنت المستخرج من بحر الشمال في أوروبا. والسبب في علو جودة خام غرب تكساس يعود لكثافته الخفيفة، التي تساوي نحو 40 في مقياس الكثافة، ما يعني أنه يطفح بسهولة فوق الماء، ومعروف أن أي مادة سائلة كثافتها أكثر من عشرة تطفح فوق الماء، وهو بذلك أخف قليلاً من خام برنت، ومعظم أنواع النفط المستخرج في الخليج. غير أن ما يميز نفط غرب تكساس الخفيف عن غيره زيادة حلاوته بسبب انخفاض نسبة الكبريت فيه، حيث يسمى النفط الذي لا تتعدى نسبة الكبريت فيه نصف نقطة مئوية بالنفط الحلو، وما زاد عن ذلك يسمى النفط الحامض. فنجد أن نفط غرب تكساس تصل نسبة الكبريت فيه إلى نحو ربع نقطة مئوية، بينما نجدها في برنت نحو ثلث نقطة مئوية، وأعلى من ذلك في معظم نفط الخليج. أهم فوائد النفط الخفيف أن تصفيته ومعالجته أسهل بكثير من غيره، وهو يستخدم بكثرة في استخراج وقود البنزين والديزل.
هناك مؤشرات مرجعية لأسعار النفط، تستخدم كمقياس لسعر برميل النفط ويتم تسعير جميع أنواع النفط وفقاً لها، وأشهر هذه المؤشرات هو سعر نفط غرب تكساس المستخدم في تسعير العقود الآجلة في بورصة نيويورك ''نايمكس''، وهي أشهر عقود النفط وأكثرها تداولاً. على سبيل المثال، وقت كتابة هذه المقالة هناك نحو 375 مليون برميل نفط تم التعاقد عليها كانون الثاني (يناير) 2015؛ قارن ذلك بإنتاج المملكة اليومي في حدود عشرة ملايين برميل. هنا تجدر الملاحظة أن هناك عدة أسعار لبرميل النفط، أولها السعر النقدي وهو متوسط السعر لصفقات الشراء والبيع التي تتم خلال اليوم في مدينة كوشينج في ولاية أوكلاهوما، وهي عبارة عن أسعار آنية يتم التسليم فيها بشكل فوري. ثانياً هناك أسعار العقود الآجلة للنفط وتمتد من عدة أشهر إلى تسع سنوات، وهي عبارة عن أسعار البرميل الواحد التي يرى المتداولون أنها أسعار عادلة في المستقبل. يحتوي العقد الواحد على ألف برميل، ويمكن للمشتري امتلاك عقد واحد قيمته نحو 60 ألف دولار لكانون الثاني (يناير) 2015، وذلك بدفع مبلغ ضمان لا يتجاوز أربعة آلاف دولار فقط. هنا تأتي فائدة الرافعة المالية في العقود الآجلة: فمن خلال مبلغ أربعة آلاف دولار يمكن الاستفادة من تقلب أسعار ألف برميل من النفط، قيمتها 60 ألف دولار. فلو ارتفعت أسعار النفط 10 في المائة إلى 66 دولارا، يحقق مالك العقد ربحاً بمقدار ستة آلاف دولار مقابل حجز مبلغ أربعة آلاف دولار من رأسماله.
معظم الذين يقومون بتداول العقود الآجلة للنفط هم شركات ترتبط أعمالها بالنفط أو إن النفط يشكل تكلفة كبيرة في أعمالها، إلى جانب حكومات وأفراد يدخلون هذه السوق للتحوط أو المضاربة. على سبيل المثال، هناك شركات طيران وشركات كهرباء ومياه وشركات بتروكيماويات ومصافي نفط وشركات مواصلات كبرى جميعهم يتعاملون بهذه السوق. النقطة الأساسية هنا هي أن هذه الشركات لا تقوم بإبرام العقود للحصول على النفط مباشرة، بل إن هذه العقود تستخدم كعقود تأمين ضد تقلبات سعر النفط. هذا يعني أن شركة طيران كبرى قد تقوم بشراء عدد كبير من عقود النفط لشهر آذار (مارس) 2015 بسعر 58,41 دولار، بينما السعر الفوري "وقت كتابة المقالة" 57,80 دولار، فتكون الشركة قد ضمنت سعر البترول عند هذا السعر. ولو أن سعر النفط ارتفع بشكل حاد خلال الأشهر الثلاثة القادمة فإن ذلك لا يؤثر سلباً على هذه الشركة، لأنها تعوض تكلفة ارتفاع الوقود ـــ المرتبط بأسعار النفط ـــ من خلال الأرباح التي تحققها من هذه العقود. لذا فإن النقطة الأساسية مرة أخرى هي أن العقود الآجلة للنفط لا تعني وجود حاجة لشراء النفط نفسه، بل إنها مجرد تأمين ضد ارتفاع أسعار المنتجات المرتبطة بالنفط.
إذاً بحكم أن هناك عددا كبيرا من المتعاملين في أسواق النفط الآجلة، وهم بشكل عام من المهتمين بمجال النفط والمحترفين في تداوله، نجد أن قراءتهم لمستقبل أسعار النفط غالباً تكون أعلى مصداقية من غيرهم. ما هي إذاً توقعات هؤلاء المحترفين لأسعار النفط بنهاية عام 2015؟ بالرجوع لبورصة نايمكس، نجد أن عقود النفط لكانون الأول (ديسمبر) عام 2015 مسعرة بنحو 61,46 دولار، أي أن التوقعات تشير إلى أن سعر النفط سيرتفع بنسبة 6 في المائة تقريباً. ولو نظرنا إلى الأسعار المتوقعة بعد تسع سنوات (نهاية عام 2023) سنجد أنها مسعرة بنحو 69,67 دولار.
ليست دائماً أسعار المستقبل أعلى من الأسعار الحاضرة، هناك ظاهرة متكررة يكون فيها سعر المستقبل أقل من السعر الفوري، وتسمى ظاهرة المسار الهابط backwardation، والتي تأتي لعدة أسباب، منها أن منتجي النفط لديهم الاستعداد لبيع النفط في المستقبل بسعر أقل من السعر الحالي، ربما لعلمهم أن كمية العرض بعد عام ستكون كبيرة بشكل يصعب عليهم البيع بأعلى من السعر الحالي، فيقومون ببيع العقود الآجلة مما يخفض سعرها في السوق. في مثل هذا الوقت من العام الماضي كانت أسعار عقود النفط لهذا الشهر أقل من أسعاره في بداية العام. أما الآن فالأسعار عادت إلى المسار الصاعد tango، ونجد أسعار المستقبل أعلى من أسعار الحاضر.
ختاماً، أسعار النفط تخضع لكم هائل من المتغيرات وتتميز بتقلباتها الحادة، ولا يمكن معرفة مسارها المستقبلي. حتى أكبر الحكومات المهتمة بمادة النفط، خصوصاً تلك التي تعتمد اقتصاداتها على هذه المادة، لا تستطيع معرفة اتجاه أسعار النفط، وليس في يديها أي وسيلة علمية أو عملية لمعرفة اتجاهها في المستقبل. أقرب وسيلة لمعرفة أسعار النفط في المستقبل نجدها من خلال قراءة نتائج صراع المتعاملين في أسواق النفط الآجلة، وأفضل المعلومات المتاحة للمتابعة نجدها في عقود نفط غرب تكساس التي يتم تداولها في بورصة نايمكس في نيويورك، والتي تقول حالياً إن أسعار نهاية عام 2015 ستكون في حدود 61.50 دولار.