تحديات الحاضر .. فرص المستقبل

تشكل صناعة البتروكيماويات أهمية خاصة بالنسبة للاقتصاد الوطني كونها تمثل حجر الزاوية في استراتيجية التنمية الصناعية في المملكة. ووفرت حكومة المملكة متطلبات إقامة صناعات بتروكيماوية ذات تنافسية عالمية في مقدمتها توفير الغاز الطبيعي وسوائله بأسعار تنافسية. وأتاحت وفرة الغاز في مرحلة الانطلاق صياغة شراكة مع كبريات الشركات العالمية تم من خلالها مبادلة جزء من الميزة النسبية التي تملكها المملكة في مجال الطاقة مقابل الاستفادة من قدرات الشركات العالمية في مجال تقنيات الإنتاج والتسويق والإدارة وتأهيل الموارد البشرية. كما أتاح توافر الغاز تعزيز تنافسية الصناعة من خلال توظيف اقتصاديات الحجم لبناء وحدات إنتاجية تعد الأكبر عالميا. وإزاء محدودية حجم السوق المحلي تبنت الصناعة استراتيجية “التصنيع للتصدير”التي جسد نجاحها القفزات الكبيرة في حجم وقيمة صادرات المملكة من البتروكيماويات التي ارتفعت خلال الفترة من 2000 إلى 2013 بما يزيد على ثمانية أضعاف من 16 مليار ريال في عام 2000 إلى 125.6 مليار ريال في عام 2013.
ومنذ عام 1983 الذي شهد بداية انطلاقة هذه الصناعة، حينما تم تصدير أول شحنة من “الميثانول” المنتج في شركة الرازي “إحدى شركات سابك” إلى اليابان، تميزت مسيرة هذه الصناعة بالنمو السريع والمطرد وبانضمام لاعبين جدد إلى نادي منتجي البتروكيماويات في المملكة. وخلال العقد الماضي مثلا ارتفعت الطاقات الإنتاجية للبتروكيماويات في المملكة بنحو ثلاثة أضعاف من 36.1 مليون طن في عام 2003 إلى 91.5 مليون طن في نهاية عام 2013 مسجلة معدل نمو سنوي تراكمي مقداره 9.7 في المائة، وهو ثاني أعلى معدل نمو على مستوى العالم. وانعكس هذا النمو على قيمة مبيعات البتروكيماويات التي بلغت في عام 2013 نحو 251 مليار ريال بارتفاع نسبته 39 في المائة عن مستوى 2010.
وكما أسلفنا، فإن وفرة الغاز الطبيعي وسوائله وأسعاره التنافسية كانت ركيزة الميزة التنافسية للصناعة، وكان لنوع وحجم إمدادات الغاز الدور الأبرز في تحديد معدلات النمو ودرجة التنوع في منتجات الصناعة. ففي المرحلة التي امتدت خلال الأعوام من 1981 إلى 1994 تم تغذية الصناعة بالغاز المصاحب الغني بالإيثان، ما أسفر عن تصدر مشتقات “الأثيلين” لإنتاج الصناعة لجهة الحجم والقيمة. وفي عام 1994 دخلت الصناعة مرحلة النمو الثانية التي تميزت باستخدام مزيج من سوائل الغاز الطبيعي والنفثا كمدخلات للإنتاج. وكان وراء هذا التحول الطلب الكبير على الغاز من قبل الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة المصحوب بشح في إمدادات غاز الإيثان، اللقيم الأثمن والأوسع استخداما في الصناعة. وأسفر هذا التحول عن تقليص نسبي في تنافسية الصناعة لجهة تكاليف الإنتاج، مع أنها بقيت في أسفل منحنى التكاليف مقارنة بالصناعة العالمية. في المقابل لم يخل هذا التحول من إيجابيات كونه أتاح للصناعة تنويع قاعدة منتجاتها وإنتاج منتجات ذات قيمة مضافة أعلى، التي بدورها تسهم في إيجاد صناعات تحويلية جديدة في المملكة. جدير بالإشارة إلى أن عدد منتجات الصناعة ارتفع من 25 في عام 1993 إلى 87 في نهاية عام 2013 وسيتم إضافة 57 منتجا جديدا ليصل إجمالي منتجاتها إلى 144 بحلول 2020.
هذه المسيرة لم تخل من جملة من التحديات على الصعيدين الداخلي والخارجي، التي تشكل في ذات الوقت فرصا واعدة للمستقبل. وتعد إمدادات الغاز الطبيعي المخصصة للصناعة لجهة الحجم والأسعار المستقبلية في مقدمة التحديات محليا. في المقابل يتيح الاستثمار في تطوير تقنيات واعدة مثل تقنية تحويل “الميثانول” إلى أولفينات وتقنية التحويل المباشر للنفط إلى لقائم فرصا للصناعة لتأمين احتياجاتها من خامات التغذية!
خارجيا، أذنت ثورة الغاز الصخري في الولايات بنهاية عصر كانت تعد فيه المملكة مركز إنتاج البتروكيماويات الأقل كلفة عالميا، الأمر الذي سينتج عنه مستقبلا تنافسا أكثر حدة في الأسواق العالمية. وما يزيد من حدة المنافسة توجهات الأسواق التقليدية للصادرات السعودية لتحقيق الاكتفاء الذاتي، حيث تشهد الصين مثلا توسعات ضخمة من المتوقع أن تحقق لها اكتفاء ذاتيا تقدر نسبته ما بين 70-85 في المائة من حجم وارداتها من 30 منتجا كيماويا خلال السنوات من 2015 إلى 2020. في المقابل تبرز إفريقيا التي يتجاوز عدد سكانها المليار شخص والتي تحقق معدلات نمو عالية كسوق واعدة لتعويض تراجع محتمل للطلب على المنتجات السعودية في أسواقها الآسيوية التقليدية.
هذه التحديات تستدعي تبني الصناعة مبادرات للتميز في الأداء في كامل منظومة الإنتاج، والتسويق، والإمداد، والتوريد، والخدمات، والاستثمار في التطوير المستمر للموارد البشرية وبناء القدرات الابتكارية المحلية. وتقدر بعض المراجع العائد على رأس المال المستثمر من تطبيق تلك المبادرات بنحو 10 في المائة.
خلاصة القول: أن صناعة البتروكيماويات صناعة عالمية يرتبط أداؤها لجهة المبيعات والأرباح بحالة الاقتصاد العالمي. والتراجع الحالي في أسعار البتروكيماويات يشكل أحد التحديات المرحلية التي تجعل توجهات الصناعة نحو تنويع قاعدة منتجاتها وتطوير الصناعات التحويلية محليا خيارا إستراتيجيا لتحصينها من جهة وتعظيم عوائدها الاقتصادية والاجتماعية. ويرجح جدوى هذا الخيار ضخامة حجم واردات المملكة من الكيماويات التي بلغت عام 2013 نحو5.1 مليون طن بقيمة 29.6 مليار ريال، الأمر الذي يشكل فرصة لإحلال الواردات في المرحلة الأولى تليها التوجه نحو تصدير المنتجات المصنعة أو نصف المصنعة في المرحلة اللاحقة. وهذا التوجه يسير بخطوات متسارعة تتمثل في زيادة مساهمة الصناعات النهائية التي شكلت في عام 2005 نحو 2 في المائة من إجمالي الطاقات الإنتاجية للصناعة و5 في المائة من عائداتها، سترتفع بحلول عام 2015 إلى 5 في المائة من إجمالي الطاقات الإنتاجية و8 في المائة من عائدات الصناعة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي