لا يكفي هذا يا وزارة التجارة
يُشكّل تفاقم أشكال اقتصاد الظل "الاقتصاد الأسود"، أحد أخطر عشرة تحديات يواجهها اقتصادنا (التحديات العشرة هي: (1) فوضى السوق العقارية، (2) هشاشة سوق العمل، (3) تأخّر تنويع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الوطني، (4) الفساد، (5) قصور أداء الأجهزة الحكومية، (6) الاستهلاك المفرط لمواردنا من الطاقة، (7) ضعف دعم المنشآت المتوسطة والصغيرة، (8) استمرار تفاوت التنمية بين المناطق الحضرية الكبرى والحضرية الصغرى "النائية"، (9) تفاقم أشكال اقتصاد الظل، (10) ضمان الأمن المائي والغذائي).
ويمثّل (التستر التجاري) المجرّم نظامياً جوهر حياة اقتصاد الظل (الخفي)، الذي يمكن وصفه بسرطان الاقتصادات الذي ينهش خيراتها، ويمتص عافيتها في غياب أو ضعف أدوات الرقابة والسيطرة عليه، وتحت ترهّل السياسات الاقتصادية واهتراء الإجراءات المحاربة لمختلف نشاطاته. لطالما تمّتْ الكتابة والنقاش حول هذا الخطر السرطاني طوال العقدين الماضيين، والمطالبة بوضع نهاية لاستشرائه في جسد اقتصادنا، لكن دون نتائج تُذكر! بل ظلّ يتفاقم حجمه وتجذّره حتى وصل إلى ما وصل إليه من خطر داهم، وعلى الرغم من ولادة الأمل لأول مرة للنجاح في التصدّي له عبر الجهود الأخيرة لوزارة التجارة والصناعة، إلا أنّ الطريق ما زال طويلاً جداً للقضاء على الشر المستطير لهذه الآفة المدمّرة!
اختلفت التقديرات حول حجمه ونسبته للاقتصاد الوطني، نظراً لعدم وجود رصد رسمي دقيق له، إلا أنّ دراسة ومتابعة عديد من المؤشرات الاقتصادية والمالية، أتاح نوعاً ما فرصة تقدير حجم أنشطة التستر التجاري، ومن تلك المؤشرات الدالّة على وجوده (تفوق نمو الاستهلاك السنوي للكهرباء والمياه على معدل النمو الحقيقي للاقتصاد، متوسط الفترة 2012-2013 بلغ للمياه 6.2 في المائة، وللكهرباء 8.1 في المائة، وللاقتصاد 4.9 في المائة). ومن مؤشراته ارتفاع حجم النقد المتداول خارج المصارف التجارية، ويُعد لافتا إذا كانت أنظمة الدفع متقدمة ومتطورة كما في بلادنا، وتأتي أهمية هذا المؤشر لأن تعاملات نشاطات اقتصاد الظل في الغالب تعتمد على التعامل بالنقد (الكاش) أكثر منه عبر القنوات المصرفية، ووفقا لبيانات مؤسسة النقد وصل النقد خارج المصارف بنهاية 2013 إلى 143.2 مليار ريال (86 في المائة من النقد المتداول خارج المؤسسة)، ووصل بنهاية تشرين الثاني "نوفمبر" 2014 إلى 152.9 مليار ريال (85 في المائة من النقد المتداول خارج المؤسسة).
أخيرا وهو الأهم بالنسبة لطبيعة اقتصادنا، مراقبة الحوالات السنوية للعمالة الوافدة للخارج، ومقارنتها بأجورها السنوية، التي يمكن أن تبلور لنا مع المؤشرات المذكورة أعلاه صورة أكثر وضوحا حول حجم هذا الاقتصاد الخفي، وبمقارنة حجم تلك الحوالات لعامي 2012 و2013 الذي بلغ نحو 125.2 مليار ريال، ونحو 148 مليار ريال على التوالي، ومقارنتهما بحجم الأجور السنوية المدفوعة لتلك العمالة الوافدة لنفس العامين: نحو 84.0 مليار ريال عام 2012، ونحو 117.2 مليار ريال، وكما يُلاحظ أنّ الحوالات جاءت أعلى من حجم الأجور، إلا أنّ المقارنة بعد خصم مصروفات الاستهلاك من تلك الأجور، بافتراض أنّها تشكّل نحو 40 في المائة من الأجور السنوية، فإنّ الفروقات (الزيادة بالحوالات) ستصبح على النحو التالي: نحو 74.9 مليار ريال لعام 2012، ونحو 77.7 مليار ريال لعام 2013 ما يضعك أمام السؤال التالي: من أين جاءت هذه الزيادات في الحوالات السنوية مقابل صافي الدخل المتاح للتحويل للخارج؟ والسؤال الآخر: هل هذه فقط الأموال (العابرة للخارج عبر النظام المصرفي) التي تتسرّب للخارج، أم أنّ هناك ما لم تستطع الأرقام الرسمية رصده وتوثيقه؟!
إنّ تقدير مثل تلك الزيادات للحوالات السنوية مقابل صافي الأجور السنوية، وتوقّع أنّها قد لا تتجاوز 15 في المائة من حجم النشاطات السنوية للتستر التجاري (الخفي)، يعني بدوره أنّ حجم نشاط التستر التجاري في بلادنا قد يصل إلى نحو 520 مليار ريال (نحو 18 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، وهي أرقامٌ خطيرة جداً حتى مع الأخذ في الاعتبار أنّ الأرقام الفعلية قد تزيد أو تنقص عن هذا الرقم التقديري بما لا يتجاوز 10 في المائة.
الحديث ها هنا يتركّز حول أنشطة تسببت وتؤدي إلى: (1) حرمان الاقتصاد الوطني من خلق الوظائف للمواطنين، وتسببها في زيادة معدلات البطالة. (3) زيادة التسرب الاقتصادي والمالي للخارج، عدا أنها تعتبر من أخطر مهددات معايير الجودة، ومستوى الإنتاجية داخل الاقتصاد، ومن ثم إضعاف النمو الاقتصادي وزعزعة مستوى التنمية. (3) تفاقم دورها الأشد ضرراً تجاه محاربة رؤوس الأموال الوطنية وتحديداً الصغيرة والمتوسطة منها، وتضييق الخناق على المدخرات الوطنية، وتقليص الفرص والمجالات الاستثمارية المتاحة والمطلوبة لتتحول إلى استثمارات يتم توظيفها في خدمة الاقتصاد والوطن. (4) زيادة معدلات الفقر بين أفراد المجتمع بسبب انعدام التوظيف. (5) كما أنّ زيادة عمليات التستر التجاري وما يتبعها بالضرورة من تفاقم أشكال الغش والتدليس، وامتداد أخطارها الكبيرة إلى ما يهدد مختلف جوانب الصحة والبيئة. (6) هذا عدا آثاره الاجتماعية الأخرى السلبية، حينما تتحقق الآثار الاقتصادية والمالية السلبية السالفة الذكر، فلا شك أنه يتبعها كثير من الآثار السلبية اجتماعياً! فماذا سيتبع انعدام فرص الاستثمار، وفرص العمل، التي ستسهم في رفع مستوى دخل المواطن؟! إلا أن تتسع دوائر البطالة والفقر، وما يتبعهما من أخطارٍ أمنية واجتماعية لا يعلم بآثارها المدمرة إلا الله.
إنّ تعلم أين تتركّز نشاطات التستر التجاري؛ التي تشمل تجارة التجزئة والسلع الاستهلاكية التقليدية "غير المعمرة"، وعمليات التجارة المرتبطة ببيع الفواكه والخضار والسلع الزراعية، والمتاجرة بالذهب والأحجار الكريمة، وتجارة المواشي، وتجارة السلع المعمرة، وأنشطة البناء والتشييد، وقطاع الخدمات كالدعاية والإعلان، وقطاع الإلكترونيات والأجهزة الكهربائية، وتسويق وبيع برامج الحاسب الآلي ونسخها بصور غير مشروعة، وفي أنشطة البقالات والمحال التجارية الصغيرة والمتوسطة كمحال الحلاقة والسباكة والصيانة الكهربائية والخياطة وغيرها من الأنشطة التجارية الفردية، التي لا تتطلب مهارات عالية، أؤكد أن تعلم مجرّد العلم أنّ هذه عيّنة من أنشطتها، فإنّك بذلك ستكون على يقين تام أنّها تسيطر وتمتد عبر أرجاء المدن والقرى في بلادنا طولاً وعرضاً.
وإنّك حينما تتأكّد لديك تلك التصورات أعلاه، فإنّ مجرّد مواجهة وزارة التجارة والصناعة لهذا العدو المندس في جسد اقتصادنا، تظل غير كافية على الإطلاق! وإنّ المواجهة تتطلّب عدة وعتادا يفوق كل ما قامت وتقوم به وزارة التجارة، التي تستحق الشكر والتقدير لقاء ما تبذله من جهود، غير أنّها كما نرى لا يمكن أن ترتقي إلى الحد اللازم لهدِّ وتدمير هذا السرطان الخطير ممثلا في التستر التجاري. فلا بد من جهود أكبر وأوسع يجب أن تُسخّر للقضاء على هذا الخطر الداهم، وأن يتم إشراك المواطن فيه من الألف إلى الياء، فكما أنّ المواطن هو ضحيته الأولى، فالمواطن أيضاً هو الأداة التي يستخدمها المتستر الوافد لاختراق الاقتصاد الوطني، والتورّط في كل ما تقدّم ذكره من جرائم وويلات وكوارث! وهذا ما سآتي على الحديث حوله في المقال المقبل بمشيئة الله تعالى. والله ولي التوفيق.