من الإحصاء ما قد يكون «مضللا»

في الحياة المشبعة بالمعلومات والشحيحة بالمعرفة، قد تصدق الأرقام ويكذب الإحصائيون. خذوا مثلا أرقام القتلى في الحروب. مضلل أن نقول إن العدد الإجمالي 2003، بينما ألفان منهم من أحد الفريقين، وثلاثة فقط من الآخر!
لعل من أظرف ما قرأت بهذا الشأن، كتاب شهير بعنوان "كيف تكذب باستخدام الإحصاء"How to Lie with Statistics، يبين فيه "داريل هف" الأساليب المختلفة التي تستخدم فيها الأرقام والإحصاءات للخداع والتضليل. الأرقام بحد ذاتها لا تكذب، ولكن قد يكون استخدامها مضللا. فمثلا، قد نطلع على إحصائية تشير إلى أن نسبة البطالة 3 في المائة، ولكن ما لم تذكره تلك الإحصائية أنها لا تشمل إلا الأفراد فوق سن 21، أو لا تشمل من يعملون جزئيا، والذين يبحثون عن عمل بتفرغ كلي.
قبل أسبوعين، شهدنا جدلا واسعا، أثاره الرقم الذي صرح به الدكتور محمد الجاسر وزير الاقتصاد والتخطيط، بشأن نسبة البطالة، وحجم قوة العمل في المملكة. وبات لسان حال الكثيرين يقول "نصدق مين يا معالي الوزير؟". ففي حين صرحت وزارة الاقتصاد والتخطيط ببطالة "6 في المائة"، صرحت مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات التابعة لوزارة الاقتصاد والتخطيط أيضا، بأن نسبة البطالة هي 11.7 في المائة!
على أية حال، نحن ندرك أنه لا يمكن لأي مكان في هذا العالم أن يعالج البطالة تماما، وصولا إلى "بطالة 0 في المائة". لكن الأمر الممكن هو العمل على "تقليصها"، لجعلها ضمن النسب المقبولة عالميا.
إن ما نتطلع إليه من وزارة الاقتصاد والتخطيط، هو أن تقوم ـــ ابتداء ـــ بعرض ما لديها من بيانات وإحصاءات حول نسبة البطالة، مع إيضاح الصورة الكاملة لها بدقة، وتصنيفها وفق فئات كالجنس والعمر والتخصص الدراسي والمؤهل العلمي والمنطقة. إضافة إلى ضرورة توضيح "المنهجية" المستخدمة لقياس نسبة البطالة، فلا أحد يعرف ـــ مثلا ــــ العمر الذي تم قياس النسبة ابتداء منه! أو هل تم تضمين نسبة "البطالة الاختيارية" أم لا؟!
وعودا على بدء، فإن الحل الفعلي للبطالة يتطلب وقفة جادة لعرض المعلومات والإحصاءات الصحيحة والدقيقة والوافية، التي تقود للتشخيص السليم، ومن ثم للحل المناسب. مع ضرورة إيجاد "استراتيجية شاملة"، ومتسقة مع الاستراتيجيات الأخرى في مجالات التجارة والصناعة والتعليم والتدريب والاقتصاد. والتخلي عن سياسة فرض "السعودة" بقوة النظام، بالتحول إلى دفع وتحفيز القطاع الخاص، لإتاحة الفرصة للمواطنين المؤهلين لتقلد وظائف قيادية وإشرافية، وذات معايير مهنية عالية، تكفل خلق وظائف "نوعية" جديدة. إضافة إلى ضرورة توجيه الإنفاق الحكومي نحو المشاريع ذات "القيمة المضافة" للاقتصاد الوطني، بدلا من "مشاريع التنمية الخرسانية" التي أدت إلى تضخم "ثروات النخبة" من مقاولي الحكومة وأصحاب "الذوات العامة".
وأخيرا، فالأمر يتطلب تدخل "مجلس الاقتصاد والتنمية"، لعمل دراسة مستفيضة لخصائص وتركيبة العاطلين، ليتم من خلالها إيجاد قاعدة بيانات وفق تصنيف شامل ودقيق لجميع التخصصات والمهن. مع ضرورة تفعيل دور الأكاديميين من ذوي الاختصاص، لتبني الأساليب العلمية في تحليل المشكلات، وإثراء الأفكار والحلول العملية، وصولا إلى تحديد البدائل الملائمة، واتخاذ القرارات المثلى.
ما زال الكثيرون من شباب بلدي يخشون فوات "قطار الزمن"، مخلفا لهم الشيب وذكريات الحسرة، والكثير من الحنق على من تسبب في عطالتهم! وما يأملونه من الجهات المعنية هو ليس مجرد تصريحات أو برامج ومبادرات وشعارات. ما ينتظرونه هو أثر ملموس على أرض الواقع، يعيد البسمة لمن اكتوى بلظى الحرمان من التوظيف، والبطالة. ونحن مع شباب الوطن.. ننتظر!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي