هل المفروض هو الواقع؟
كثيرا ما نتناول في أحاديثنا بعض المشكلات التي نواجهها في حياتنا العملية أو الاجتماعية عما كان مفروضا أن يحدث ومقارنته بما حدث فعلا، ويأخذنا الإسهاب في المقارنة بين الأمرين – المفروض والواقع – والنتائج المترتبة على كلا الأمرين. هذه الظاهرة لا تقتصر على جانب أو اثنين من حياتنا كما أشرت أعلاه، بل تنسحب على مجمل جوانب حياتنا، فتجد الواعظ أو الموجه دائما ما يجنح لهذا الأسلوب في التوجيه لجمهوره، والواعظ هنا قد يكون المعلم في المدرسة أو المدير في الشركة أو القائد السياسي أو الأب، وهدف هؤلاء كلهم رسم صورة جميلة وجذابة وذات عائد مصلحي للمتلقي من أجل حثه على إنتاج المفروض في محاولته المقبلة.
هذا الأسلوب في التوجيه والتغيير أسلوب أصيل في الثقافة العربية، فتجد جل الكتب والخطب تتحدث عما كان مفروضا أن يحصل، وأن الواقع أقل من المأمول أو مخالف تماما له. فنجد كاتبا يقرر أن العدل مفتاح السعادة لكل الشعوب، وأنه لو تحقق العدل لعاش الجميع في سعادة وهناء، وتجد الأستاذ في المدرسة يحث تلميذه على المذاكرة ويزين النجاح لذلك التلميذ عله يغير من حاله إلى حال أفضل، وحتى كتب التراث لا تخلو من طغيان لهذا الأسلوب في الإصلاح أو التطوير أو سمه ما شئت.
تكمن مشكلة هذا الأسلوب من وجهة نظر عالمة السياسة الكندية الدكتورة سوزان براون في تعطيل الفرد من أجل الكل، فالدكتورة بروان تؤمن بأن أساس تجربة المجتمع ليس ما يريده التفكير الجمعي للمجتمع، بل بإفساح الحرية للفرد كفرد في العمل والإبداع والصدوح برأيه، ومن جهة أخرى، تؤسس براون لجدلية أن ما يقع من أحداث وما يتعلق بها من نتائج هي وليد طبيعي لمسبباته، وأما معارضة الواقع برومانسية المفروض في تقييم جوانب الحياة المختلفة، فهي بسبب تغليب رؤية المجتمع على رؤية الفرد بقوة العدد أو بالتخويف من الاختلاف.
إذا، ما يحدث اليوم هو وليد لأسباب حدثت قبله، ولو نظرنا للسبب وللمسبب لوجدنا أنها علاقة طبيعية جدا، وكما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (البعرة تدل على البعير)، وهذا رسم للعلاقة الطبيعية بين السبب والمسبب. فإذا أردنا تغيير الواقع للمفروض – من وجهة نظري أو من وجهة نظرك – فعلي وعليك تغيير المسببات أولا، وإيجاد مسببات منطقية لما نريد حدوثه من نتائج، لا أن نسهب في تحليل النتائج دون الرجوع لأصل النتائج ومصدرها، وهذا ما يسميه الإداريون والمهندسون التخطيط.
من هنا نجد أن البون الشاسع بين البلدان العربية والإسلامية يكمن في مقاربتهم ومقاربتنا للواقع، هم يؤمنون بالواقع ويسعون لتغييره عبر التجربة وإعطاء المساحة الكبيرة لإبداع الفرد في التفكير والبحث، أما نحن فنريد تغيير الواقع بالأحلام الأفلاطونية لنضع النتائج المرجوة في المستقبل دون التهيئة الفكرية والعملية لهذه النتائج التي نرتجيها. أساس المجتمع هو الفرد، وقوة المجتمع في تنوع أفراده، لا أن يكونوا نسخا مكررة من بعضهم، عندها سنعيد إنتاج تجاربنا مرة بعد أخرى.