مأساة أعواد الثقاب

أشياء كثيرة صغيرة قد نحتقرها ولكنها لعبت وما زالت تلعب دورا كبيرا في حياة البشر ولا نعرف قيمتها إلا عندما نفقدها، ولم نهتم يوما بأن نسأل كيف ستكون حياتنا دونها!
ومن تلك الأشياء أعواد الثقاب أو كما يطلق عليها أعواد الكبريت لأن أول مادة صنعت منها تلك الأعواد "مادة الكبريت"، ولكن سرعة اشتعاله جعلت الناس تبحث عن بديل، فما يوقد لنا النيران سواه، وكيف ستكون حياتنا من دون نار؟!
ظهرت تلك الأعواد منذ القرن السادس عشر ومرت بمراحل تطور على مدار قرنين ونصف قرن من الزمان، وكلفت الكثير من الأرواح قبل أن تصل إلى ما هي عليه اليوم، ناهيك عن الأرواح التي راحت ضحايا الحرائق الناجمة عن اشتعالها!
وبعد فشل مادة الكبريت وجد الأمريكي النزو دي فيليبس أن الفسفور الأبيض السريع الاشتعال سيفي بالغرض، وسجل الاختراع باسمه سنة 1836 وكان يصنعه بنفسه ويسلمه لزبائنه يدا بيد!
ولم يكن يدر بخلده ما سيحدثه عوده المغمس في الفسفور من مآس، فأبخرته السامة تسببت فيما يعرف بـ "الفك المنخور" الذي هدد حياة صانعي أعواد الثقاب، حيث يبدأ المرض بألم في الأسنان وانتفاخ في اللثة والفك ومن ثم تنتشر الخراجات والإفرازات الصديدية الناتجة عن التهاب الأنسجة وتبدأ عظام الفك بإصدار ضوء شبحي "وميض"! كحال الألعاب النارية، وكان العلاج الوحيد لها هو عملية مؤلمة ومشوهة يتم فيها استئصال الفك تماما!
ولا يقف حد ضرره عند تشوه وموت صانعيه بل حتى بائعيه يعانون الظلم والرواتب الضئيلة وسوء المعاملة، فبائعاته إما فتيات لقيطات أو فتيان مشردون يجوبون الشوارع المغطاة بالثلوج بأقدام حافية، ويحرم عليهن الكلام أو إسقاط أعواد الثقاب على الأرض، أو الذهاب للحمام دون إذن، ومن تفعل ذلك ستعرض نفسها للعقوبة والحسم من راتبها الضئيل في الأساس!
ولخطورته حظرت السويد وأمريكا استخدامه، إلا أن بريطانيا رفضت ذلك، وخرج من رحم تلك المأساة نساء رفضن الظلم والأذى الذي تسببه لهن هذه المادة، وتزعمت الإضراب ضد المصنع البريطاني الشهير لأعواد الثقاب "برايت وماي"، الصحافية "آني برانت" المدافعة عن حقوق العمال.
ونجح الإضراب واستبدل الفسفور الأبيض بالأحمر وزادت الأجور للضعف وبدأت بائعات الأعواد بالاهتمام بملابسهن، فارتدين الملابس متعددة الألوان والقبعات الكبيرة ذات الريش وأحذية بكعب عال، أما الأولاد فتميزوا بالبناطيل المنتهية بأجراس!
يقال إن الفضل في اكتشاف أعواد الثقاب الآمنة يعود للصيدلي "جون وولكر"، الذي حدث مصادفة بينما كان يخلط بعض المواد بعود خشب، وعندما التصقت المادة بالعود وجفت حاول تنظيفه بحكة على حجر صوان وكانت المفاجأة انطلاق شرر، كان فاتحة خير على البشرية رغم ما سببه من مآس وما زال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي