المفهوم الحقوقي للفكر الانتحاري
يظل الحديث عن الفكر الانتحاري ومفهومه وأسبابه وتداعياته حديث الشارع؛ إذ تباينت الآراء حول من يوعز ذلك إلى التغرير، ومن يرده إلى نظرية المؤامرة، وبين هذا وذاك هناك من يختلق الذرائع ويلقي باللائمة على الغير للتحلل من الإخفاق في المسؤولية.
المتتبع لأعمار الانتحاريين يجد أنهم في العشرينات، أو ما دون ذلك، وبطريقة حسابية بسيطة هم أطفال أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، وبعضهم لا يعرف من عاصفة الصحراء سوى اسمها، فمن أين أتى هذا المفهوم الانتحاري؟ ومن أي فكر حقوقي جرت تغذيته؟
عندما عانت أوروبا في الماضي من ويلات الحروب اتجهت إلى صناعة الإنسان، وبدأت أولا في بناء واستثمار العقول لتقدح في الأذهان ترسيخ مبدأ الحق والعدل وقيم الحياة؛ ولذا نجد أن القرآن الكريم دعا في كثير من آياته إلى قدح زناد الفكر "أفلا تعقلون" "أفلا تتفكرون" "أفلا يتدبرون".
إنه المفهوم الحقوقي التائه بين ملامح هذا العقل الانتحاري وبين الفكر المتطرف وصناعة النظام القاتل، وهذا المفهوم الغائب هو الفيصل في تحصين وحماية العقل الانتحاري من اختراقه وبث الأفكار الضالة فيه.
ومن يرمي بمسؤولية الدولة وأدواتها للفكر الانتحاري إنما يصادم كل الحقائق، فمن يحتوي العقل منذ نشأته هما الأم والأب، وهما من يوظفان توجهاته، ويجسدان بنيته الذاتية في عالم متغير، وصولا إلى برمجة عقله.
قبل أيام أعلنت الجهات الأمنية السعودية إحباط محاولات إرهابية، وألقت القبض على مجموعة تزيد على 400 شخص، وهذا دليل قاطع على إنجاز الدولة دورها ومهامها في حماية الوطن في وقت قصير وبكفاءة عالية.
ومن يرمي بمسؤولية الخطاب الديني إنما يغالط واقع الحال، فتونس الدولة التي كانت تصنف بالعلمانية، وتربى فيها أجيال على المناهج الغربية البعيدة عن الخطاب الديني، باتت الآن إحدى أولى الدول ارتفاعا في نسبة الشباب المتورط مع الجماعات المرحلة للمتطرفين إلى بؤر التوتر الإقليمية.
إن حماية جيل قادم تكون من خلال نظام مقنن، يحدد المسؤوليات والعقوبات، ويرسخ في أذهان النشء الآثار المترتبة على فعله الضار، لا أن يترك ذلك للاجتهاد من دون تقنين، فغياب مشروع حقوقي مقنن يحدد الأفعال ويضبطها ويجرمها بشكل قاطع وصريح، أوجد لتيار الموت طريقا لعقول هشة، وترك بيئة من دون متصدٍّ للمفاهيم الضالة والفكر الانتحاري.
ومن الثابت أن محاكاة العقل الحقوقي من أصعب العقول مجادلة واختراقا لأفكاره، ولما كان قد قدر لنا أن نعيش في أحداث مضطربة، فإننا يجب أن نثري الثقافة الحقوقية التي تبدأ من المؤسسة الأسرية "البيت".
رصد وتحليل هذه الحالة يجب ألا يقف عند حد التغرير بالعقل، أو التطبيق الديني، بل يجب أن يتعدى ذلك إلى واقع أعمق وأشمل نحو وسائل التواصل الاجتماعي. فجيل الفكر الانتحاري جيل التواصل الاجتماعي العابر لكل الحدود، ألا يمكن أن يكون هناك عقل حقوقي له وعي حقوقي لا يمكن اختراقه؟ بلى.
فالمفهوم القانوني للفكر الانتحاري هو شخصية تكونت وتبلورت عبر مؤثرات وإمكانات شخصية ذاتية وغياب ذهني من المؤسسة الأسرية، فهو جيل يرى أن لا مستقبل له في حياة يعتقد أنها باتت تصارع بقاياها، وهي تبحث بين تلاقي قدراتها للحفاظ على بقائها، وبين التعايش مع الآخر مهما كان حجم الاختلاف.
إن الضرر مكلف على جميع المستويات ما بين تحولات ومسار جديد.