هل كان النجار محقا دائما؟

كان يقينا مطلقا أن الأرض هي مركز الكون وأنها ثابتة والشمس والكواكب الأخرى تدور حولها.. وظل هذا اليقين سائداً راسخاً منذ قال به الفيلسوف الإغريقي بطليموس في القرن الثاني قبل الميلاد، إلى أن زلزله العالم الفلكي كوبرنيكوس، في القرن السادس عشر، بنظرية معاكسة تماما، تقول بدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس.
لكن كوبرنيكوس اضطر بسبب سطوة رجال الكنيسة إلى إخفاء كتابه (في دوران الأجرام السماوية) وأوصى بنشره بعد وفاته وبقي متداولا فقط بين العلماء، حتى تبنى جيراردو برونو بعده الموقف نفسه فاتهم بالهرطقة وأحرق حيا.
ثم نشر العالم جاليليو، كتابه (حوار) ليقول الرأي ذاته، إلا أنه تحت إرهاب محكمة التفتيش أرغم على إنكار ما قاله فيه والتوبة عنه وتم حرق الكتاب.. وروي أنه كان يتمتم وهو يخرج من المحكمة "ولكنها تدور!".
ليست تلك أولى المعارك مع اليقين فقد حفظ لنا التاريخ السومري قبل أكثر من أربعة آلاف سنة يقينا أسطوريا خارقا في "ملحمة جلجامش" أكد أن جلجامش: "هو الذي رأى كل شيء!" مع أنه بالكاد رأى آنذاك معالم طريقه، وهو يبحث عن نبتة الخلود كما تقول الأسطورة!
حفظ لنا التاريخ أيضا مواجهة الفيلسوف سقراط (500 ق.م) لليقين المطلق عند الإغريق في معتقدهم بتعدد آلهتهم الأسطوريين، فاتهموه بإفساد شباب أثينا وإقناعهم بأنه ما ثمة إلا إله واحد، الأمر الذي اعتبرته المحكمة تجديفاً وإلحادا وحكم عليه بالموت بشرب سم الشوكران.
لم يكن هذا اليقين المطلق ابن الماضي السحيق فحسب، فهو ما زال ساري المفعول إلى يومنا هذا، وباستثناء اليقين المطلق بالخالق سبحانه والمعتقد الديني، اللذين يحكمهما الإيمان، فإن علاقة اليقين المطلق بالظواهر البشرية كالفكر والرأي والذوق والقيم والأعراف والسلوك هي التي تفضي إلى احتكار القناعة بأولويتها والإفراط بصوابها دون غيرها لتشكل بذلك حاجزاً مقاوما للتقدم، بل يصبح الأمر فادحا حين تستفحل هذه القناعة وتضيق ذرعا بما عداها فيدفع بها إلى حد الإلغاء القسري بالقمع والعنف.. وهو ما يحدث في كل مرة يعربد فيها التعصب الشخصي، أو القبلي، أو القومي، أو الأيديولوجي السياسي أو الديني.
كان الفيلسوف النمساوي كارل بوبر "1902 - 1996" ابن أسرة ارستقراطية ثرية، مثقفة، حمل معظم أقاربه منها درجات عالية من التعليم.. كان في الجامعة حين تعرض والده للإفلاس إثر الكساد الكبير 1928 فاضطر لتركها والبحث عن عمل فاشتغل عاملا مع نجار.
يحكي بوبر أن ذلك النجار كان يرى نفسه محقا دائما في كل ما يقول.. ومتأكدا تماما من رأيه وعلى يقين مطلق بصوابه.. وأن موقف ذلك النجار أحدث أثره العكسي عليه وجعله يفسح فيما بعد مجالا في ذهنه لآراء ومواقف وأفكار الآخرين ويتفهم قناعاتهم..
ومن يقرأ لبوبر يرى كيف أنه رغم شهرته كفيلسوف صارم للعقلانية وعلم المعرفة، كان في الوقت نفسه متصالحا مع آراء الآخرين.. ولعل عناوين مؤلفاته نفسها توحي بذلك.. مثل: المجتمع المفتوح، ضد التبجح، يؤسس الأيديولوجية، عقم المنهج التاريخي، أسطورة الإطار، وبحثاً عن عالم أفضل.
عاش بوبر قرابة القرن، وكان في كتاباته وأقواله ومحاضراته يصدر عن روح منفتحة، نافراً من الحتمية والنسقية والشمولية، دافع عن كرامة الإنسان وحقوقه وحريته ورعى المهمشين والأيتام.. وكان عاشقا للمعرفة والعلم فامتلأت حجرات بيته بالكتب كما كان مغرما بالموسيقى أيضا وثابر على تعلمها حتى أنه ألف سيمفونية وهو في التسعين من عمره!
مع ذلك.. لا يمكن أن نعزو موقف كارل بوبر الفكري المرن إلى حكاية التأثير العكسي ليقين النجار، إنها مجرد دعابة بوبرية، وإلا فإن بوبر ليس سوى وريث ثقافة حية، فهو ابن الحداثة الغربية التي بدأت بما عرف في أوروبا بعصر العقل في القرن السابع عشر الميلادي، حين أطلق أبو الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت مبدأه (الكوجيتو) الشهير "أنا أشك .. إذا أنا أفكر .. إذا أنا موجود"، وأصدر كتابه المرجعي (مقالة في المنهج) طارحاً فيه أسس ما أسماه الشك المنهجي (الإيجابي) الذي يخضع الواقع والفكر للمنطق والعقل، وبما يناقض الشك السلبي الذي يعمد للمغالطة أو للسفسطة والعبث.
ومن البداهة القول: إنه مثلما قد يفضي اليقين المطلق إلى مخاطر فإن الشك السلبي يفضي أيضا إلى مخاطر أخرى.. فالأول يقود للتطرف الذي قد يؤدي إلى القمع والعنف، بينما قد يقود الثاني للدمار النفسي والخراب الروحي أو الفوضى.
وقد رأينا كيف قاد اليقين الأيديولوجي إلى القهر والاستبداد والبؤس في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية والاتحاد السوفياتي وانهارت جميعها، وأسفر كذلك عن "الهويات القاتلة" على حد تعبير أمين معلوف في كتابه بهذا العنوان، أما الشواهد فكثيرة مثل: تطاحن اللبنانيين لخمسة عشر عاما في حربهم الأهلية والتطهير العرقي في يوغسلافيا السابقة، فضلاً عما نعيشه اليوم من مآسي إرهاب جماعات وعصابات الإسلام السياسي.
في حين قاد الشك السلبي إلى السخط والعدمية وفقدان الأمل وعبر عن نفسه في ثورات الطلبة في الغرب وصرعات الهيبز والمخدرات والمثلية الجنسية.
لكن ألا يؤدي بنا تحاشي اليقين المطلق أو الميل للشك، إلى التورط بالمغالطة، أي بالهرولة إلى التوفيق والتلفيق؟ ربما.. فهو احتمال ممكن.. فكم نضبط أنفسنا كما نضبط غيرنا متلبسين بالمغالطة، للتستر على نقائص وعينا وتحضرنا.
وهذا يعني أن خلاصنا يتوقف على قوة ومصداقية شحنات الوعي والتحضر فينا فبقدرها ننجو بأنفسنا من مغبة السقوط في متاهة التوفيق والتلفيق، ولعلي هنا أستشهد بمقولة المسرحي الفرنسي ساشا جفتري: "ليس هناك من هو محق على الدوام، فحتى الساعة الواقفة تصدق مرتين في اليوم الواحد".. ويا له من قول بارع.. إذ هكذا يراوغ المغالطون.
ولكيلا نقع في المغالطة الفجة، فما أحوجنا إلى الفلسفة، ليس وفقا لتعريف فيثاغورس لها بأنها حب الحكمة فحسب، وإنما كذلك بوصفها الطرح الواعي للأسئلة والمحاولة المنهجية للإجابة عنها لتنقذنا من التشوش والعشوائية أو الأحكام المسبقة والانطباع.
أعود إلى السؤال الذي وضعته عنوانا لهذا المقال: (هل كان النجار محقا دائما؟) أجزم أن الإجابة ستكون: لا.. لكن ذلك لا يكفي.. لأن ما بعدها هو ما يحدد أن نكون أو لا نكون!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي