ميزانية متوقعة .. وحلول حاضرة
ربما تكون الميزانية العامة السعودية الجديدة الأكثر توقعاً، مقارنة ببقية الميزانيات على مر السنوات والعقود، والسبب، أنها جاءت في ظل مجموعة من الحقائق الاقتصادية المحلية والعالمية، كما أنها تأتي في سياق تحول اقتصادي سعودي تاريخي لا يشبه أي تحول مر به هذا الاقتصاد في العقود الماضية.
وتكاد تكون أرقام الميزانية المذكورة معروفة قبل الإعلان عنها، لأن كل شيء مفتوح على الملأ، كما أن المخططات الحكومية كانت واضحة للغاية، ليس فقط في مسألة ما يحصل على الساحة الاقتصادية، بل أيضاً من جهة ما سيحصل على هذه الساحة.
يضاف إلى ذلك، الانفتاح السائد في هذا المجال. فكل شيء قابل للمناقشة والمراجعة اقتصادياً، دون التخلي عن الثوابت المحلية التي تحظى بحرص أعلى هرم للحكم في البلاد كلها.
ومن الثوابت، تلك التي تتعلق بالنمو الذي يظل حاضراً رغم كل المتغيرات التي تحدث على الساحة المحلية، وفي مقدمتها تراجع أسعار النفط بصورة تاريخية، بفعل تمسك المملكة بضرورة تصحيح السوق النفطية مهما بلغت التكاليف، والسبب في هذا التمسك، أنها تريد سوقاً أكثر استقراراً وأقوى استدامة، وأشد وضوحاً.
ومن الثوابت أيضاً، عدم المساس بمستويات المعيشة في السعودية، في ظل تطبيق أي سياسات تتعلق بترشيد الإنفاق الحكومي وتطويره. إلى جانب ذلك، هناك الانفتاح الاقتصادي الذي ساد في السنوات القليلة الماضية، وهو يوفر أيضاً مصادر للعوائد المالية المطلوبة، ولا سيما أنه يحظى بالرعاية الأولى من القيادة، والأهم، تمكين العلاقة بين القطاعين العام والخاص بما يخدم التنمية، وكذلك عملية معالجة الخلل في الميزانية العامة.
وبدا هذا واضحا في خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الذي قال: "وجهنا مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، بالعمل على إطلاق برنامج إصلاحات اقتصادية ومالية وهيكلية شاملة.
وهذه الميزانية تمثل بداية برنامج عمل متكامل وشامل، لبناء اقتصاد قوي قائم على أسس متينة تتعدد فيه مصادر الدخل، وتنمو من خلاله المدخرات وتكثر فرص العمل، وتقوى الشراكة بين القطاعين العام والخاص، مع مواصلة تنفيذ المشاريع التنموية والخدمية، وتطوير الخدمات الحكومية المختلفة".
إنها باختصار استراتيجية تنموية كبرى، وضعت من أجل مواجهة المستجدات على الساحة الاقتصادية، وفي مقدمتها بالطبع العجز الحاصل في الميزانية العامة، كما أنها تمثل تعهداً على أعلى مستوى، بأن المخططات التي وضعت لازدهار واستقرار المملكة اقتصادياً، ماضية إلى الأمام، رغم ما يحدث من منغصات وتراجعات على الساحة.
الخيارات متاحة أمام الحكومة لسد العجز في الميزانية العامة، وهي آمنة لأنها تستند إلى الواقع لا إلى الأوهام. إنها حقيقية وليست ورقية، والاقتراض المحلي الخارجي يمثل واحداً من هذه الخيارات، دون أن يتأثر النظام المصرفي السعودي سلباً، وهذا ما أكده الملك سلمان نفسه في أكثر من مناسبة، بما في ذلك ما قاله في أعقاب الإعلان عن الميزانية العامة.
والحق، أن هذا النظام المصرفي، يتمتع بقوة كبيرة، حتى في أعقاب الانهيار الهائل لأسعار النفط، فعلى الرغم من أن المملكة لا تزال تعتمد بصورة رئيسة على البترول في عوائدها الوطنية، أظهر النظام المصرفي السعودي ليس تماسكاً فحسب بل قوة، أشارت إليها أكثر من جهة تصنيفية محايدة في الآونة الأخيرة.
والعجز الراهن في الميزانية العامة، يحفز بصورة مباشرة مخططات تنويع مصادر الدخل، التي تستند إلى أسس أيضاً قوية في المملكة، وتحتاج إلى مزيد من الدفع والتطوير وتنويع حتى المستثمرين سواء المحليين منهم أم الأجانب، فلا يمكن للسعودية الاستمرار على نفس النهج الاقتصادي الذي كانت عليه في العقود الماضية، لماذا؟ لأنها في الواقع تقوم بإنشاء اقتصاد جديد مختلف تماماً عما كان، من خلال التنويع الاستراتيجي المطلوب، وكذلك جودة الإنفاق الحكومي العام، وأيضاً تمتين العلاقة بين القطاعين العام والخاص.
وهذه الأخيرة، تشكل وحدها محوراً اقتصادياً ، يمكن أن يساهم بصورة مباشرة في عملية التنمية، وكذلك تمكين الاقتصاد في مرحلة التنويع المستهدف، دون أن ننسى، أنه في المرحلة الماضية أطلقت سلسلة من المخططات لدفع القطاع الخاص نحو القيام بدوره التنموي والاستثماري أيضاً.
والعجز في الميزانية العامة السعودية، يدفع أيضاً حراك الاستثمارات الأجنبية، التي حظيت هي الأخرى برعاية خادم الحرمين الشريفين مباشرة، فهناك أكثر من 18 قطاعاً قابلاً للاستثمار في السعودية بعوائد جيدة وسط بيئة من الأمان الاقتصادي والتشريعات المساندة.
والمملكة تستطيع ببساطة استقبال أكثر من تريليون ريال دفعة واحدة في مشاريع مختلف، سواء تلك التي تخص تطوير البنى التحتية، أو الخاصة المرتبطة بالخدمات المختلفة أيضاً، مما يوفر مصدراً آخر مضموناً لعوائد البلاد.
ولا شك أن إعادة النظر في الإنفاق العام، سيقلل الضغط على الميزانية في السنوات القليلة المقبلة، ولا بد من خطط جديدة في هذا المجال، لا تمس المواطن، ولكن لا تنال في الوقت نفسه من الدخل الوطني، وخفض الإنفاق المدروس سياسة تتبعها حتى البلدان المتقدمة بصورة تكاد تكون دائمة.
وقد طرحت أرقام الميزانية السعودية الجديدة كثيرا من المعايير الجديدة، كما حركت بوتيرة أسرع الخطوات نحو استكمال بناء اقتصاد سعودي متجدد، مرتبط بصورة مباشرة بالمشاريع التنموية الهائلة التي أصرت القيادة السعودية على عدم المساس بها تحت أي اعتبارات أو حجج.
إن الحراك التنموي مرتبط تماماً بتشكيل الاقتصاد الجديد، أي الاقتصاد السعودي الكلي، الذي يستوعب حقاً الإمكانيات المتوافرة على الساحة الوطنية، وكذلك الثروات الأخرى غير النفطية.