للمعرفة عشاق
هناك أناس يعشقون العلم والمعرفة بشكل منقطع النظير، يعيشون لهما، فيستفيدون ويفيدون، وهما الهم الأكبر لديهم، حتى في أحلك الظروف شدة. يروي ياقوت الحموي في كتابه الرائع “معجم الأدباء” قصة شديدة الغرابة، تدل على ما أشرت إليه، فقد ذكر أحدهم أنه زار العالم الشهير أبا الريحان البيروني وكان يحتضر على فراش الموت، فالتفت البيروني إلى زائره واسمه الوالوجي وكان من أهل العلم، فسأله عن مسألة علمية في حساب الجدات الفاسدة فقال له: أفي مثل هذه الحالة وتسألني؟! أي إنك على فراش الموت، فقال البيروني: لئن اأترك الدنيا وأنا عالم بها خير من أن أتركها وأنا جاهل بها، فشرح له زائره المسألة. قال: فما خرجت من بيته حتى سمعت الصراخ عليه فقد مات. وقرأت في كتب التراث قصصا قليلة مماثلة لذلك.
وفي شهوره الأخيرة، وقد جاوز التسعين، تردد الشيخ حمد الجاسر ــ رحمه الله ــ على المستشفى كثيرا، وكان قد سقط في إحدى هذه المرات وأصيب بكسور متعددة، مما استدعى دخوله العناية المركزة، وكانت الجبائر على أجزاء من جسمه، والأجهزة الطبية على أجزاء أخرى، وكان في حالة يرثى لها، وزاره وهو في هذه الحالة أستاذي العلامة الدكتور عبد الرحمن العثيمين ــ رحمه الله ــ للسلام عليه والاطمئنان على صحته، ومن الطبيعي أن تكون زيارة عابرة، ولكن حمد الجاسر العاشق للعلم والمعرفة أخذ يناقشه في بعض أمور العلم، مستذكرا أحداثا ومواقف يندر أن نجد شخصا في مثل هذا العمر والظرف والحالة الصحية يستذكرها، مثيرا إعجاب وانبهار الدكتور العثيمين، وإنها حادثة تثير العجب.
ومما يزيد تعجبي أن الحادثة نفسها تكررت مع الدكتور عبدالرحمن العثيمين، فقد أصيب في العامين الأخيرين من حياته بمرض خطير تطلب علاجه داخل السعودية وخارجها، وأقعده عن المشي، ومع هذا كله فقد كان منارة للعلم والمعرفة، مرحبا أشد الترحيب بزواره، يجيبهم ويناقشهم في مسائل العلم دون كلل أو ملل، بل كان يعكف حتى الأيام الأخيرة من عمره على تحقيق أحد المخطوطات، وقد تشرفت بزيارته ــ رحمه الله وغفر له ــ أكثر من مرة وهو في هذه الحالة، ورأيت عالما يعشق العلم والمعرفة.
ومثل ذلك ما أخبرني به الراوية محمد الشرهان فقد ذكر أنه زار الراوية الراحل محمد الحمد العمري ــ رحمه الله ــ وكان مصابا بمرض السرطان لا يكاد يقوى على الحركة والكلام، وفي حالة شديدة من التعب والإعياء ولكن حبه للمعرفة جعله يسأل الشرهان عن قصيدة للشاعر النبطي الشهير سليمان بن علي، فلما أخبره الشرهان أنها عنده، طلب منه أن ينسخها له.