التنكيل بالشخصية العربية

منذ هزيمة حزيران (يونيو) 1967 وحتى اليوم ظل مد التنكيل اللفظي بالشخصية العربية، عقلا وروحا ووجدانا وسلوكا يتدافع ويتصاعد على نحو صاخب في الإعلام وفي الإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي فضلا عن المنتديات والمجالس.. وقد شارك في التنكيل الشعراء والكتاب والمفكرون والإعلاميون والساسة والفنانون.. النخبة والعامة.. من مشرق العالم العربي إلى مغربه.
لم تبق مثلبة أو نقيضة إلا وتم استدراجها من القاموس لترجم بها الشخصية العربية.. لم يبق في تاريخ العرب ورموزه المذمومة أو المضروب بها المثل السيئ إلا ودارت بها مطاحن الكلمات كتابة أو شفاهة. وصفقنا للشتائم فينا وللسيل الجارف من الألفاظ الدميمة وتنابزنا أيضا بسموم الأقاويل والأوصاف بحق بعضنا البعض.. وثابرنا على اجترار رواسب ضغائن وخزعبلات مؤرخين ورواة وأفاقين أطلقوا على مواطني هذا البلد العربي أو ذاك أحكاما غاشمة تشملهم بخصلة أو خصال مزرية.. صدقناها وتبنيناها.. الجميع لم يستثن الجميع.
في أوائل سبعينيات القرن الماضي أصدر عبد الله القصيمي كتابه "العرب ظاهرة صوتية" فتحول هذا العنوان على الألسنة والأقلام إلى أيقونة يستشهد بها عند كل نقاش علما أن عبد الله القصيمي لم يقدم بالأساس، في معظم كتبه السابقة سوى الهذر والثرثرة بتكرار ممل حتى أنك لا تكاد تقرأ له صفحة إلا وتعتقد أنك قرأتها في صفحة سابقة أو فصلا إلا وساورك الشعور ذاته أو كتابا له إلا وأحسست بذلك أيضا، وقد وقفها جميعا على كيل السباب للمقدس وللعرب ووصمهم بجميع المذمات وسلب منهم كل قيمة فكرية أو عقلية أو عقدية وقدم فيهم هجائيات صارخة في ثرثرة عقيمة المحتوى عديمة المنطق..
صفق له الكثيرون بينما كان يصدر في أحكامه عن حس موتور حانق حاقد، يعيد ويجتر ممعنا بالشطب والمسح لأي أهمية للعرب، منكرا عليهم أي إبداع، مقررا أنهم ليسوا سوى ظاهرة صوتية دون أن يعي أنه هو بذاته "ظاهرة كلامية" كما قال عنه الشاعر يوسف الخال، وأنه لا يقدم للقارئ إلا القنوط دافعا إياه لمواجهة جدار أصم أسود عابس، على حد ما قاله عنه المفكر حسين مروة.
صفق العرب أيضا لنزار قباني وهو يقول "أشكو العروبة أم أشكو لك العربا".. أو وهو يتساءل "فهل العروبة لعنة وعقاب" وصفقوا كذلك لزعيق مظفر التواب "هل أنتم عرب.. والله أنا في شك" وللشعر الهابط لأحمد مطر وغير ذلك مما تورطنا ومازلنا في استهلاكه على نحو غرائزي تحت وطأة حسرة مرة كاوية على وضع عربي بائس ربما للتعويض أو للتنفيس دون التمعن في خطورة هذا التنكيل بذاتنا العربية أو التنكيل المتبادل بعضنا ببعض، بأوصاف دميمة سيئة بحقنا وكأنها حقائق علمية.. وخصال أبدية.
لقد سار التنكيل بالشخصية العربية في الشوط بعيدا، غير أنه اكتسب مع الصحوة السنية والصحوة الشيعية ثم مع أحداث الربيع العربي تنكيلا متطرفا أرعن أخرج من القبور أشباح أسماء وجماعات وفرقا ومللا ونحلا وجعل حضورها اليوم أشد وحشية وفتكا مما لو كانت هي بذاتها عادت إلى الحياة.. فقد تقمصهم مشايخ وأئمة يتوضأون بدم العرب ويمدون سمط موائدهم على أوصال أجساد بشرية ترجف رجفاتها الأخيرة .. يسبون ويغتصبون ويفجرون على ملة تلك الأسماء التي أخرجوها من القبور ومن كتب صفراء ليتعاظم التنكيل بذاتنا العربية من مقذع الهجاء إلى تكفيرها وصلبها على أبواب البيوت وباحات المساجد والكنائس ومفارق الطرق والساحات في أهوال يرتعد الشيطان نفسه منها.
فهل كان التنكيل اللفظي في البدايات مقدمة لهذه النهايات الدموية؟ وإذا كان في هذا السؤال بعض الإيجاب..، فلماذا نحن دون غيرنا من الأمم نستعذب التنكيل بأنفسنا.. فلا الأوروبيون، ولا الأمريكيون ولا الهنود أو اليابانيون أو الصينيون أو الكوريون مارسوا التنكيل بأنفسهم، على نحو ما نفعل .. حتى أننا نكاد نكون الاستثناء في ذلك؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي