فوبيا الغرب .. وقفص الاتهام
من المؤكد أن "داعش" سحر انقلب على الساحر.. تناسلت من «القاعدة» ومن شذاذ متطرفين آخرين ومن فلول جيش صدام بعد نبذهم على نحو مذل ومهين.
ولم يكن الساحر طرفا بعينه، وإنما عديد من الجهات الإقليمية والدولية، سعت أجهزة مخابراتها إلى استثمارها لمآرب سياسية وأجندات خاصة بها.. وإلا فكيف للعقل أن يصدق بأن تحالفا دوليا من 60 دولة شن أكثر من 22 ألف غارة جوية على "داعش" لمدة عام ونصف ولم يتمكن من القضاء عليها، في حين أنها تتحرك في صحار مكشوفة بعدتها وعتادها وجحافلها الهمجية..
لا سبيل لتفسير ذلك سوى أن اللعبة لم تنته بعد.. وأن ضربات "داعش" المباغتة في أوروبا وغيرها ليست سوى نكد ما من احتماله بد.. لأن الخط الأحمر عند كل لاعب هو غيره عند الآخر.. و"داعش" تعيش على هذا التناقض.. ولعل هذا هو هاجس كل من يتابع مجرى الأحداث.. لكن لا علاقة لهذا بالمؤامرة، وإنما كما سبقت الإشارة صراع المصالح وتضارب الأجندات.
قبل "داعش" كان المجاهدون الأفغان و«طالبان» و«القاعدة» بدعم غربي، أمريكي على الأخص، وكان زعماء الإسلام السياسي ومتطرفوه يتمتعون في الغرب ـــ إلى ما بعد 11 من أيلول (سبتمبر) 2001 ـــ لاجئين في دياره يزعقون ضد حضارته وجاهلية العصر ويهددون بلدانهم.
ورغم الويلات الإرهابية التي كانت تكتوي بها البلدان العربية قبل وبعد كارثة نيويورك.. هرول الغرب مع أحداث الربيع العربي، للحفاوة بالإسلام السياسي وسعت أمريكا والاتحاد الأوروبي لنجدة «الإخوان المسلمين» في مصر بشكل فاقع وقح.. مثلما كانت بريطانيا في العقد الثالث من القرن الـ 20 ثم أمريكا معها راعيتين لحسن البنا وجماعته.. إلا أن الغرب لا يفضل هذه السيرة ويحاول التملص والتنصل من تبعات شحنه الانتهازي للإسلام السياسي.
اليوم .. بعدما أربكت ضربات الإرهاب الغرب، أدخلته في إسلام فوبيا متمحور حول العرب بالذات، فوبيا جعلته يسير في اتجاه قضم مساحات حريته وديمقراطيته والتقهقر عن منجزات حقوق الإنسان إلى سن قوانين أمنية وبوليسية تؤسس لعودة العنصرية والتمييز.. ضد المسلمين وخصوصا العرب .. فأدبياته وأعلامه، فضلا عن مؤسساته الرسمية ومواقف الساسة فيه باتت تجدف في هذا الاتجاه وصار الانطباع الغربي السائد يستقطب العداء للعرب ويضعهم في قفص الاتهام.
ها هي ماري لوبين في فرنسا تجاهر بالعداء.. وها هو المتسابق لرئاسة البيت الأبيض ترامب لا يتورع عن التهييج والحض على الكراهية والعنصرية البغيضة دون أن تحرك المؤسسات القضائية ومنظمات محاربة التمييز ساكنا وتأخذهما إلى ساحة القضاء.. وقل مثل ذلك في بقية دول أوروبا.
إن الخشية إزاء هذا التراجع عما جاهدت دول الغرب لتحقيقه من مساواة وتسامح وحرية وحقوق إنسانية، أن يستحكم هذا الاحتراس ليبلغ بدول أوروبا النزوع إلى الخلاص الذاتي ويعود بدول الغرب لأجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية وظهور طغاة مثل هتلر يصوغ العالم وفق خياله المريض.
وبغض النظر عن مصادر الإرهاب والملابسات التي أحاطت ببروزه على هذا النحو، فالواقع يقول إن سجلات الإرهابيين في فرنسا وبلجيكا وغيرهما تعج بالسوابق الجنائية.. بمعنى أنهم مجرمون لكنهم، جعلوا من مهنة الإرهاب محطتهم الأخيرة، سواء للانتقام من التهميش أو لأزمة في هويتهم، علاوة على القدرة الشيطانية لـ "داعش" على غسل الأدمغة والتجنيد، خصوصا مع الإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي التي لعبت دورا حاسما جديدا وخطيرا لم يكن متاحا من قبل بدليل أن الغرب لم يواجه سابقا بهذا الإرهاب المتوحش، رغم وجود العرب أجداد وآباء وأحفاد لمدة تزيد على 70 عاما بين ظهراني الغرب تحت الظروف البائسة نفسها.
إن "داعش" اليوم، تستهدف بهجماتها الإرهابية دفع الغرب لكي ينغلق على نفسه، وضرب إسفين يقصم التثاقف والتعايش لإحداث القطيعة مع العرب والمسلمين، وهي ترى أن إرهابه هو الوسيلة الأنجع لتحقيق ذلك فضلا عن توريطه بالتخلي عن منجزاته في الحرية والديمقراطية، وإدخاله في صراعات على المستويات القومية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي السياسية.
ومع أن الغرب يعي ذلك.. إلا أنه، مع الأسف، وعي يحد من فعاليته إحساس الغرب بالتفوق الحضاري، إلى الحد الذي جعله، أسير ما أسميته في مقال سابق "الفصل الحضاري" الشبيه بالفصل العنصري أو"الأبارتايت" سيئ الذكر في جنوب إفريقيا، فقد ظل الغرب على مدى قرن تقريبا يمارس في مقارباته وعلاقاته مع العالم العربي.. والعالم الثالث بشكل عام أدوارا انتهازية صرفة .. ويحل مشكلاته على حساب الجميع.
سيدفع العرب بكل تأكيد ثمن وضعهم في قفص الاتهام، على أكثر من صعيد، لكن الغرب إن لم ينجح في شفاء نفسه من عقدة "الفصل الحضاري" أو التمييز الحضاري واستمراء خلاصه الذاتي على حساب غيره فحريته وديمقراطيته ستحيط نفسها شيئا فشيئا بقضبان تضعه في قفص من صنع نفسه أو من سوء مواجهته لفوبياه الذاتية.
وربما تتطلب عملية كسر هذا القفص عنفا يدير التاريخ إلى الوراء. وهو كابوس ما من عاقل يتمناه، بل إنني أظل أراهن على أن "حكمة الغرب" على حد تعبير الفيلسوف البريطاني العظيم برتراند راسل في كتابه الخالد بهذا العنوان.. ستجتاز به هذا المحذور.