صناعة المياه المعلبة «2»
في عام 2006 وفي خضم حملة للترويج لمنتجها، قامت شركة مياه فيجي Fiji ــــ وهي شركة أمريكية يقع مقرها في لوس أنجليس في حين تقع فيجي في المحيط الهادي ـــ بنشر الإعلان التالي، "الشعار يقول، فيجي لأنها مياه لم تعبأ في كليفلاند!" كان إعلانا ذكيا حث المستهلكين على الربط بين صورة مدينة صناعية كئيبة مقابل صورة لغابات مطيرة في جزيرة منعزلة، مقارنة غير عادلة؟ ربما مسؤولو مدينة كليفلاند الواقعة في ولاية أوهايو في شمال الولايات المتحدة شعروا بالإهانة فقاموا بفحص مياههم من شبكة المدينةTap Water مقابل مياه فيجي المعلبة وبينت الفحوص ــــ كما زعموا ــــ أن مياه شبكة المدينة أنظف وصحية أكثر "وجدوا أن مياه فيجي المعلبة احتوت على معدلات زرنيخ عالية". فهل المياه المعلبة أفضل بالفعل من مياه الشبكات؟
في بداية القرن العشرين ومع تطور الطب بشكل عام وتعقيم المياه بشكل خاص ـــ الأكاديمية الوطنية الأمريكية للهندسة اعتبرت تعقيم الماء رابع أهم إنجاز لتحسين مستوى المعيشة في القرن العشرين بعد الكهرباء والسيارات والطائرات ـــ بدأ نجم صناعة المياه المعلبة في الخفوت. فلم يعد هناك سوق لمياه مقدسة أو مياه ذات خصائص شفائية معجزة. تزامن هذا الأفول مع صعود نجم صناعة المشروبات الغازية التي استحوذت على جزء ضخم من السوق. لكن مع الوقت بدأ معدل الزيادة في مبيعات المشروبات الغازية يتضاءل مع ازدياد الوعي بضررها على الصحة. هنا، بدأت شركات المشروبات الغازية في البحث عن طرق للاستمرار في السيطرة على السوق واتجهت البوصلة هذه المرة صوب الماء. كانت البداية في عام 1977 لشركة بيريير Perrier الفرنسية حيث صرفت أكثر من خمسة ملايين دولار على حملة تسويقية ضخمة وعلبت الماء في قوارير زجاجية بشكل أخضر أخاذ. كانت وقتها أول مياه معدنية فوارة معلبة في أمريكا وأصبحت بفعل الدعاية جزءا من الحياة الصحية والسليمة للجيل الجديد. لفت هذا النجاح نظر البقية ودخلت شركة بيبسي كولا بمنتجها أكوافينا (1994)، أما كوكاكولا فأنتجت داساني (1999) وجلاشيو وقامت نستلة بإنتاج بيور لايف (1993) وبولاند سبرينجز ولاحقا قامت بشراء مياه بيريير نفسها. حاليا تستحوذ الشركات الثلاث على حصة الأسد من السوق الأمريكية التي تثمن بما يقارب الـ 12 مليار دولار سنويا (أرقام 2007) وتعد الأكبر في العالم باستهلاك يقارب التسعة مليارات جالون من الماء سنويا.
هذا النجاح الكبير لشركات المياه المعلبة في أمريكا تحديدا ــــ التي تقوده في الأساس شركات المشروبات الغازية ــــ كان غريبا بعض الشيء ومناقضا لأساسيات الاقتصاد. فلماذا يدفع الشخص الأمريكي مبلغا معينا ليحصل على سلعة ما في حين يستطيع الحصول على أخرى مقاربة لها في المواصفات ـــ وأحيانا أفضل منها ـــ بسعر يقل بمئات المرات. كيف يمكن حث المستهلكين على شراء بضاعة ليسوا في حاجة لها؟ كيف يمكن دفعهم لإنفاق الآلاف من الدولارات في حين يمكنهم الحصول على ذات السلعة بعشرات الدولارات؟ سلعة كهذه ليس لها أي طلب أو أي سوق.
السر كان في إيجاد طلب أو سوق من لا شيء أو ما يسمى بـ Manufactured Demand. الخطة كانت سهلة، القيام بمهاجمة مياه الشبكات وتخويف المستهلكين منها عبر دعاية سلبية مستمرة والتضخيم من حوادث التلوث في تلك المياه. بعد ذلك القيام بطرح الحل وهو مياه (صحية) معلبة وآمنة. دخول شركات المشروبات الغازية منذ التسعينيات الميلادية صاحبه تركيز شديد على الدعاية الهجومية ضد مياه الشبكات في المدن الأمريكية المختلفة حتى نقل عن أحد كبار المسؤولين في شركات المياه المعلبة قوله، "المياه المعلبة هي عدونا الأول" وآخر "عندما ننتهي ـــ يقصد من الترويج لمنتجهم ــــ لن يكون مياه الشبكات صالحا لشيء سوى للاستخدام في دورات المياه".
وهكذا وبعد عقود من الدعاية المستمرة، تضاعف معدل استهلاك الفرد الأمريكي للمياه المعلبة من جالون ونصف الجالون في عام 1976 ـــ أي قبل الثورة الحديثة لهذه الصناعة ـــ إلى 30 جالونا سنويا في عام 2008. أي أن معدل الاستهلاك الفردي تضاعف 20 مرة. أما على الصعيد العالمي فقد ازدادت المبيعات السنوية للمياه المعلبة بنسبة 10 في المائة كل عام منذ دخول شركات المشروبات الغازية ـــ منتصف التسعينيات ـــ حتى 2005. ففي عام 1996، كانت المبيعات السنوية لهذه الصناعة تقدر بـ 73 مليار لتر من الماء، وازدادت إلى 178 مليار لتر من الماء في عام 2006.
كانت هذه نظرة سريعة لتاريخ المياه المعلبة في القرن العشرين لتبين كيف أن كبرى الشركات الأمريكية وخصوصا في العقود الثلاثة الأخيرة تمكنت من تحويل منتج طبيعي مجانا تقريبا إلى صناعة تضخ المليارات من الدولارات سنويا. فقد كان دخول شركات المشروبات الغازية سببا في إنقاذ هذه الصناعة من الكساد وتحويلها إلى صناعة ضخمة عالميا. كل ما احتاج إليه الأمر هو دعاية قوية لـ «شيطنة» مياه الشرب العادية... نكمل الحديث في المقال المقبل.