صناعة المياه المعلبة «3»
في الأعوام 2009 و2010 فاز فيلم Tapped بجوائز عالمية كأحد أفضل الأفلام الوثائقية. الفيلم يتحدث عن صناعة المياه المعلبة في الولايات المتحدة ابتداء من الاستغلال الضخم لمصادر المياه الطبيعية مرورا بالمبالغ الطائلة التي تجنيها هذه الصناعة وانتهاء بصناعة العلب البلاستيكية التي تلوث الطبيعة.
يبدأ الفيلم بالحديث عن مصادر المياه للمياه المعلبة في أمريكا بالنظر إلى مدينة فرايبورج الأمريكية الواقعة في ولاية ماين Maine الشمالية، حيث تتمتع بمياه جوفيه وسطحية صافية ونقية. هناك قدمت شركة نستلة السويسرية -شركة الأغذية الأكبر في العالم التي دخلت سوق المياه المعلبة بقوة في العقود الثلاثة الأخيرة- وبدأت بسحب المياه من المنطقة. بشكل مختصر، تأتي المياه المعلبة -في الولايات المتحدة وغيرها- من مصدرين: الأول هو مياه الشبكات الموجودة في المدن Tap Water. من هذه المياه مياه داساني التابعة لشركة كوكاكولا ومياه أكوافينا التابعة لشركة بيبسي كولا ومياه بيور لايف التابعة لشركة نستله. تمتاز هذه المياه بشكل عام بكمية أملاح ذائبة قليلة -في حدود 100 ملج لكل لتر، أي أن هذه الشركات العملاقة تقوم وبكل بساطة بتنقية مياه الشبكات -النقي والصحي في الغالب ليس فقط في أمريكا بل في أغلب دول أوروبا- ثم بيعها بأسعار مضاعفة للمستهلك. في أمريكا مثلا يقدر سعر علبة الماء بـ1900 ضعف سعر المقابل له من ماء الشبكات!
المصدر الثاني للمياه المعلبة المياه الجوفية أو مياه العيون مثل مياه بيريير التي تأتي من عيون بيريير في جنوب فرنسا ومياه بولاند سبرنج التي تأتي من مدينة فرايبورج التي بدأنا المقال بالحديث عنها. تكون هذه المياه في الغالب ذات ملوحة أعلى قد تبلغ 400 ملج لكل لتر. هنا تقوم الشركات بسحب كميات هائلة من المياه الجوفية ثم بيعها بعد معالجة بسيطة. الخطورة هنا هي الإضرار بالمستخدمين الآخرين وبمستوى المياه الجوفية. للتوضيح أكثر فإن المياه السطحية في أمريكا -كالأنهار والبحيرات- هي حق مشاع للجميع بشرط عدم الإضرار بالآخرين. إنما في حالة المياه الجوفية فالوضع القانوني يختلف من ولاية إلى أخرى. ففي ولاية ماين حيث مدينة فرايبورج، إذا كنت تمتلك المضخة الأكبر فبإمكانك -قانونا- سحب النصيب الأكبر من المياه وهو ما يعرف قانونا بـAbsolute dominion. وهذا ما دعا شركة نستله للذهاب إلى هذه البلدة الصغيرة وسحب كميات هائلة من المياه الجوفية ذات الجودة العالية هناك -بالمجان تقريبا- وبيعها بالآلاف.
الوضع ذاته تكرر في ولايات ومدن أخرى -تحديدا في الشمال الشرقي من الولايات المتحدة- حيث تقوم شركات المياه المعلبة باستنزاف المياه هناك. في السنوات الأخيرة ومع موجات الجفاف المتلاحقة طلب من المواطنين ترشيد الاستهلاك -في سقيا حدائقهم وغسيل سياراتهم- في حين استمرت الشركات الكبرى بالسحب من مصادر المياه التي هي حق للجميع. وهكذا فإن المتضرر دائما هو المواطن وليس المستثمر.
ينتقل الفيلم بعد ذلك من الحديث عن مصادر المياه المعلبة -التي لا تختلف عن مصادر المياه العادية- للحديث عن صناعة علب المياه البلاستيكية. التحدي في استخدام العلب البلاستيكية كما يبين الفيلم يتأتى من ناحيتين: الأولى هي من أين تأتي هذه العلب أي كمية الطاقة -الأحفورية غالبا- اللازمة لتصنيع هذه العلب. التحدي الثاني: هو أين تذهب بعد استخدامها. تأتي هذه العلب من مصانع البتروكيماويات التي تعتمد على النفط في الأساس. ولهذا يقدر الباحثون أن صناعة العلب المستخدمة سنويا في الولايات المتحدة كافية لتعبئة وقود مليون سيارة. وتنتهي في الغالب كملوث رئيس وخطير للبيئة بشكل عام والبيئة المائية بشكل خاص. التقديرات مثلا تشير إلى أن نسبة علب المياه البلاستيكية التي يتم إعادة تدويرها في الولايات المتحدة تقل عن 20 في المائة فقط.
الهدف من الفيلم -ومن هذه المقالة- ليس التحذير من خطر المياه المعلبة. فهي -على العكس- مياه نقية وذات سجل ناصع من الناحية الصحية. الهدف هو تبيان عدم الحاجة الملحة لها بوجود بديل مناسب ومشابه للجودة، فاختبارات الطعم أوضحت عدم قدرة كثيرين على التفرقة بين مياه الشبكات في بيوتهم والمياه المعلبة. الهدف أيضا هو دحض الادعاءات بكون هذه المياه من مصادر مختلفة ونقية جدا كما تشير الدعايات إلى ذلك. فمصادر مياه الشرب ومياه الشبكات في الغالب هو ذاته. ولهذا تقدمت بعض الشركات مثل أكوافينا بالاعتذار إلى الجمهور وإضافة مصدر مياهها -وهو مياه الشبكات العادي- إلى الغلاف، الطريف أنها ما زالت تحتفظ بصورة جبال أخاذة ربما للإيحاء بوجود مصدر مختلف. وأخيرا يركز الفيلم على إعادة الاعتبار إلى مياه الشبكات التي تمت شيطنتها من خلال دعاية قوية جدا في العقود الثلاثة الأخيرة.
قبل الختام، محليا تشير بعض الأرقام -المصدر جريدة "عكاظ"- إلى وجود أكثر من 65 مصنعا للمياه المعلبة تنتج ما يقارب 6.5 مليار لتر سنويا وبحجم استثمارات يتجاوز ملياري ريال سعودي. الاختلاف هنا مقارنة بالسوق الأمريكية أو الأوروبية- هو في عدم وجود مياه شبكات بجودة عالية، ولهذا فإن المياه المعلبة في كثير من المدن هي مصدر شرب لا يستغنى عنه.
كانت هذه خاتمة سلسلة بسيطة ومختصرة للغاية تبين بشكل موجز تاريخ صناعة المياه المعلبة عالميا مع التركيز على السوق الأمريكية الأكبر والأكثر تأثيرا.