مشاريع مائية ضخمة
لم يشهد كوكب الأرض تغييرات لسطحه ـــ أو باطنه ــــ بالكمية والنوعية التي حدثت وتحدث في القرن الأخير. نعم هناك مشاريع ضخمة جدا أقيمت في القرون ــــ بل والألفيات ــــ السابقة كالأهرامات وسور الصين العظيم وغيرها. لكن كمية وسرعة التغيير الذي يحدث حاليا هو أمر غير مسبوق. مشاريع ضخمة أدت إلى هد جبال وشق قنوات وإلغاء مسطحات مائية موجودة أو تشكيل أخرى جديدة. نتحدث هنا عن مشاريع مائية أدت أو ستؤدي إلى تغيير كبير في "وجه" الكرة الأرضية أشبه ما تكون بجراحه تجميلية.
بداية الهدف المشترك لأغلب هذه المشاريع المائية العملاقة هو تزايد الحاجة إلى المياه بسبب الانفجار السكاني العالمي الذي أدى إلى زيادة سكانية من 1.5 مليار في عام 1990 إلى 6.1 مليار في عام 2000. الهدف الآخر الذي أصبح أكثر أهمية في العقود الأخيرة هو توليد الطاقة الكهربائية، حيث تمثل الطاقة الكهرومائية خمس الطاقة الكهربائية في العالم. دافع آخر خلف هذه المشاريع المائية هو التحول السريع من النمط الريفي إلى النمط الحضري وما صاحبه من ارتفاع في الطلب على الطاقة والمياه. ففي عام 2008، أصبح سكان المدن أكثر من سكان الأرياف للمرة الأولى في تاريخ البشرية. أول هذه المشاريع المائية العملاقة هي السدود كسد الممرات الثلاثة في الصين وسدود أعمال الدلتا في الجنوب الهولندي. ثاني هذه المشاريع العملاقة التي غيرت سطح الكرة الأرضية هي القنوات المائية كقناة ناقل البحرين الأردنية أو المشروع الصيني لنقل ماء الجنوب للشمال ــــ سنتحدث عنها في المقال المقبل. وأخيرا هناك المشاريع المائية العملاقة التي تم إهمالها ولم ترَ النور إلى الآن مثل مشروع اتحاد ماء وكهرباء أمريكا الشمالية المعروف اختصارا بـ NAWAPA وسنفرد لها مقالا مستقلا.
تحدثنا في السابق عن بعض هذه المشاريع بشكل سريع في حين لم يتسع المجال للبعض الآخر. نبدأ هنا من أبرز هذه المشاريع العملاقة وهي مشاريع السدود التي عرفتها البشرية منذ آلاف السنين. مع مرور الوقت تمكن البشر من إتقان هذه الصناعة والوصول بها إلى مستويات غير مسبوقة. من المبهر حقا أن بعض السدود الموجودة حاليا تم تشييدها منذ مئات أو آلاف السنين وهو ما أسهم في نقل المعرفة إلى الأجيال الحالية. تشير بعض المصادر مثلا إلى أن سد بحيرة حمص في سورية هو أقدم سد موجود في العالم. السد الذي يرجع بناؤه إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد يعتبر صغيرا بالمقاييس الحالية، إذ يبلغ ارتفاعه سبعة أمتار ويحتجز خلفه بحيرة بحجم يقدر بـ 200 مليون متر مكعب حاليا. إضافة إلى هذا السد يوجد عديد من السدود ـــ خاصة في الهند واليابان وإسبانيا ـــ التي لا تزال قائمة على الرغم من تشييد أغلبها في مرحلة ما قبل الميلاد.
أما في العصر الحديث وعند الحديث عن السدود، فلا بد من البداية من ولاية نيفادا الأمريكية، حيث يوجد سد هوفر الذي كان لفترة طويلة السد ــــ بل والبناء ـــ الأعظم في العالم. السد الذي استغرق بناؤه ست سنوات "من عام 1931 إلى عام 1936"، ويقع على نهر كولورادو ـــ أحد أعظم الأنهار في أمريكا الشمالية ــــ أنشئ لخزن المياه وتوليد الطاقة الكهربائية في المقام الأول. السد الذي كان يعرف بسد بولدر ثم تحول إلى سد هوفر ــــ تيمنا بالرئيس الأمريكي هيربرت هوفر ــــ يحتجز خلفه أكبر خزان مائي في أمريكا الشمالية: بحيرة ميد. البحيرة الصناعية التي تمد ولايات نيفادا "90 في المائة من المياه في مدينة لاس فيجاس تأتي من بحيرة ميد"، وكذلك أريزونا وكاليفورنيا باحتياجها المائي، تمدها أيضا بالطاقة الكهربائية.
كانت هندسة وبناء السدود تتم بشكل تقليدي ومن غير تطور كبير حتى أتي الهولنديون وغيروا من هذه المفاهيم كلية. خلافا لبقية الدول، لم يكن هدف الهولنديين من السدود هو الحاجة إلى الماء بل الحاجة إلى التخلص من الماء. فبسب موقعها الجغرافي ووجود ثلثي مساحة البلد عند أو تحت مستوى سطح البحر فإن السدود في هولندا هي للحماية من الغرق في المقام الأول وليس لتجميع المياه أو توليد الطاقة. عبقرية الهولنديين ظهرت جلية للعيان في سدود المنطقة الجنوبية، حيث أنشأوا سدودا ببوابات متحركة لعبور القوارب ولتفادي التأثير السلبي في البيئة البحرية. ثم كان السد الأشهر الذي تجلى فيه الإبداع الهندسي: سد Maeslantkering وهو عبارة عن بوابتين ضخمتين مفتوحتين على الدوام وتغلقان عند وجود خطر الفيضان.
إن كان الأمريكيون قد بدأوا بناء السدود العملاقة ثم تسلم الهولنديون المشعل وأحدثوا طفرة في هندسة وتصاميم السدود فإن الصينيين هم بحق سادة بناء السدود في العالم الآن. فالصينيون يمتلكون حاليا "أرقام 2003" 45 في المائة من مجمل السدود الكبيرة "أعلى من 15 مترا" عالميا. لم يقتصر الأمر على السدود داخل الصين بل خارجها أيضا، ففي العقد الأخير قامت الشركات الصينية ببناء ما يقارب مائة سد في أكثر من 39 دولة. هذه الصدارة العالمية رمزها الآن سد الممرات الثلاثةThree Gorges Dam على نهر اليانج تسي الذي يعتبر الأكبر في العالم حاليا ـــ من حيث إنتاج الطاقة الكهربائية ـــ حيث ينتج ما يقدر بـ 18 جيجا واط وهي كمية كافية لسد حاجة منطقة الرياض من الكهرباء.
نستكمل الحديث في المقال المقبل عن مشاريع مائية ضخمة أخرى، وهي القنوات المائية.