مشاريع مائية ضخمة «2»
نستكمل في هذا المقال الحديث عن المشاريع المائية الضخمة التي من شأنها إحداث تغيير كبير على خريطة الكرة الأرضية. السبب الأول خلف هذه المشاريع هو تزايد الحاجة إلى المياه مع الزيادة السكانية العالية والتحول إلى النمط الحضري. وعوضا عن نقل المدن إلى مصادر المياه، ارتأى الإنسان المعاصر البدء بهذه المشاريع.
الحديث عن المشاريع الضخمة لا يكتمل أبدا من دون ذكر التنين الصيني. في المقال السابق الخاص بالسدود رأينا تفوق التنين الصيني بالاستحواذ على حصة الأسد من السدود في العالم وبامتلاك السد الأعظم حاليا، سد الممرات الثلاثة. هنا وعند التحول للحديث عن القنوات المائية الضخمة يبرز اسم العملاق الصيني مجددا. هذه المرة بمشروع ضخم يعد الأكبر من نوعه في التاريخ، نقل ماء الجنوب للشمال South North Diversion Project. يهدف هذا المشروع وببساطة إلى إنشاء ثلاث قنوات ــــ مسارات ـــ رئيسة (مسار غربي وأوسط وشرقي) لنقل الماء من الجنوب الغني مائيا (وتحديدا من نهر اليانج تسي، أعظم أنهار القارة الصفراء) إلى الشمال الفقير مائيا، حيث المناطق الحضرية المتطورة صناعيا. تقدر بعض المصادر كمية المياه التي ستتيح هذه القنوات نقلها بنحو 45 مليار متر مكعب سنويا عند الانتهاء من المشروع الذي تكلف حتى عام 2014 ما يقارب الـ 80 مليار دولار متخطيا التقديرات الأولية التي كانت تشير إلى تكلفة إجمالية في حدود 60 مليار دولار.
المسار الأوسط لهذا المشروع ينقل الماء من نهر الهان ـــ أحد فروع نهر اليانج تسي ـــ إلى العاصمة بكين. هذا المسار الذي بدأ العمل فيه عام 2004 وانتهى بعد عقد كامل وتحديدا في عام 2014 يبلغ طوله 1400 كيلومتر ويستطيع نقل 13 مليار متر مكعب من المياه سنويا. أما المسار الشرقي فيمتد لمسافات تصل إلى 1150 كم ويحتوي على 23 محطة ضخ لرفع ضغط المياه. ابتدأ العمل فعليا في هذه القناة الشرقية في عام 2003 م ويتوقع لها أن تنقل ما يقارب الـ 15 مليار متر مكعب سنويا. بخلاف المسارين السابقين، فإن المسار الغربي لا يزال في مراحل التخطيط ويهدف إلى نقل نحو 17 مليار متر مكعب من المياه من نهر اليانج تسي في الجنوب إلى النهر الأصفر في الشمال.
تشير التقارير القادمة من هناك إلى رغبة الصين في تنفيذ مشروع آخر أكبر من مشروع نقل مياه الجنوب للشمال. المشروع الجديد الذي لا يزال في مراحل التخطيط الأولية يهدف إلى نقل أكثر من 200 مليار متر مكعب "نحو خمسة أضعاف كمية المياه التي يمكن نقلها في المشروع الحالي" من مياه الأنهار الجنوبية الدولية مثل الميكونج والبرامابوترا إلى نهري اليانج تسي الجنوبي والنهر الأصفر الشمالي. الخطر الأكبر هنا هو في التأثيرات البيئية والاقتصادية السلبية الهائلة على مستخدمي هذه الأنهار الدولية وخصوصا الهند وكمبوديا وتايلاند وفيتنام وما قد يسببه هذا المشروع من نزاع إقليمي ضخم.
إقليميا، يوجد هناك مشروعان مائيان مميزان يستحقان أن يكونا من ضمن مشاريع القنوات المائية الضخمة، الأول مشروع ناقل البحرين الأردني والثاني مشروع النهر العظيم الليبي. المشروع الأردني المسمى"ناقل البحرين" أو Red Sea Dead Sea Project يهدف إلى إنشاء خط/ قناة بطول 200 كيلومتر لربط البحر الأحمر بالبحر الميت. لهذا المشروع أهداف شتى، بداية ستقوم هذه الأنابيب بتغذية البحر الميت لتعويض النقص المطرد في مستوى المياه هناك بسبب قلة الروافد المغذية له. فمن المتوقع أن يختفي ثلاثة أرباع حجم البحر قبل عام 2025. وهنا يبرز دور المشروع في حماية البحر الميت من الانكماش والجفاف لكنه في المقابل قد يؤدي إلى تغيير في صفات البحر المميزة وذلك بتخفيف ملوحته عند خلطه بمياه البحر الأحمر. الهدف الآخر والحيوي لهذا المشروع العملاق هو الاستفادة من الاختلاف الكبير في الارتفاع بين مستوى سطح البحر الأحمر والبحر الميت الذي يصل إلى أكثر من 400 متر لتوليد الطاقة الكهربائية. في حال إتمام المشروع الذي قد يكلف أكثر من عشرة مليارات دولار فإنه يتوقع أن يولد طاقة كهربائية تصل إلى 500 مليون ميجاواط ويسهم في تحلية ما يقارب 800 مليون متر مكعب من مياه البحر الأحمر.
أما مشروع النهر العظيم الليبي Made River Great Man فشبيه بالمشروع الصيني حيث الهدف نقل الماء من الجنوب الغني بالمياه الجوفية إلى الشمال المكتظ بالسكان لكن الفقير مائيا. القصة الليبية بدأت بالمصادفة المحضة في عام 1953، حيث كان الجيولوجيون هناك يبحثون عن النفط. ولما لم يجدوه أرسلوا للحكومة الليبية برسالة مفادها أننا لم نجد النفط لكننا وجدنا ماء. تبين فيما بعد أنه التكوين المائي الجوفي الأكبر في العالم. المشروع الذي بدأ في عام 1984 تم تنفيذ بعض مراحله ينقل الماء عبر شبكات يبلغ طولها أكثر من 4000 كيلومتر وتكلف أكثر من 32 مليار دولار. أغلب المعارضين للمشروع يشيرون إلى تكلفته العالية وعدم استدامته. بعض المصادر الأجنبية "مثل أطلس المياه" تشير إلى إمكانية نضوب المياه في أقل من 20 عاما ـــ أعلى التقديرات تشير إلى 60 عاما ـــ في حين يصر المسؤولون الليبيون على استمرار تدفق المياه لـ 4625 عاما.
الحديث في المقال القادم عن المشاريع المائية العملاقة التي لم تر النور.