العشق الخالد..

طوال هذه الطريق الممتدة إلى ما يعرف تاريخيا بشرم أبحر، وتقطعه السيارة من القصر الكبير في شارع فيصل بن فهد - منطقة الكورنيش، إلى أقصاه في 40 دقيقة غالبا، لم تتلاق العيون إطلاقا، الشفاه مطبقة لا ترسل إلى الآذان أي إشارة، الصمت يحكم قيوده على المشهد، الأنفاس ساخنة، دقات الساعة تراقب نبضات القلب، دقة على المعصم، ودقة بين الاضلاع، الانتظار سيد الموقف، لا أحد سواه، يجرؤ على المثول في تلك اللحظة، انتظار.. انتظار.. وما أقسى الانتظار.
.. الرجل الجالس إلى جوار السائق يقرأ بعض سور القرآن بلا صوت، أردفها بتسبيحات وتهليل واستغفار، ارتفعت التمتمات بدعاء صاحب الحوت عندما أصابه الكرب: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين". خلعت السيارة البنيان خلفها ومضت، السائق يتفادى بسهولة بالغة بعض الحفيرات المفتوحة والنتوءات وسط الطريق، يستطيع فعل ذلك مغمض العينين، إنه يحفظ الطريق عن ظهر قلب منذ سنوات.
.. في آخر هذا الدرب، مدينة البحيرات أو خليج سلمان نسبة إلى قبر الصحابي الجليل سلمان الفارسي، أطلت السيارة على البقعة التاريخية، التفت السائق سعيد إلى مجاوره، قال: نرجع؟ الكلمة الوحيدة، التي خرقت حظر المفردات منذ 45 دقيقة، الإجابة غير واثقة تماما: كمّل.
جرس الهاتف يشرخ جدار الصمت، لا أحد يمكنه الاتصال في مثل هذا الوقت غير فيصل، أو أيمن، الحروف لا تجتمع على شفتيه، تتطاير، اكتفى بفتح الهاتف، جاء صوت فيصل يبث الفرح: مبروك.. مبروك، فزنا بالثلاثة والدوري. وتوقفت السيارة ونزل السائق فجأة..
طوال الأسبوع السابق للمباراة، قضى خالد بن عبد الله بن عبد العزيز، أصعب سبعة أيام في تاريخه الرياضي الطويل، حاصرته السيناريوهات السوداء، ماذا لو فاز الهلال؟ سيضيع تعب موسم كامل ولن يتوقف الأزرق إلا وفي يده الكأس، يومئ برأسه يمينا وشمالا ويعيد الحسابات بسؤال آخر، ماذا لو تعادلنا؟ سنبقي على الفارق ونستطيع تحقيق اللقب، ويستمر في تقليب أوراق السيناريوهات، يطلق زفرة طويلة ويقول: التعادل طيب. عندما بدأت المباراة أغلق على نفسه طوال الشوط الأول، لا يستقبل هاتفا ولا زائرا ومضى مع سائقه عند بداية الثاني.
علاقة الابن الثاني للملك السعودي السادس بالأهلي، علاقة سيامية، سألته عن ذلك فقال: لا أتذكر يوما مضى دون أن أذكر الأهلي أو يذكر في حضرتي.
جذور العلاقة تمتد قبل أكثر من 50 عاما، حين حط الطالب السعودي خالد القادم من مدارس برمانا اللبنانية في مدينة الورود الجبلية رحاله في مدارس الثغر الجداوية، التي أسسها كبير الأهلاويين الراحل عبد الله الفيصل.
في مدارس الثغر أصبح خالد طالبا مقيما، أو طالبا داخليا، يعبر أسوار المدرسة منتصف الخميس ويعود إليها مع غروب شمس الجمعة، في واحدة من هذه الجمع كسب الأهلي إحدى كؤوسه، وخالد في المدرجات رفقة بعض الأصحاب، في اليوم التالي شاهد رجلا يدعى علي التركي يلتف حوله بعض الطلاب يروي قصصا من مباراة الأمس، اقترب منهم استمع إلى حديث عاشق لا مشجع، وبدأ الهوى يتسرب إلى أوصاله تجاه هذا الكبير الموسوم بالأهلي، تماما كما قال الشاعر:
لقد دبّ الهوى لك في فؤادي
دبيب دم الحياة إلى عروقي..
لاحقا أصبح علي التركي وهو السكرتير الشخصي للأمير عبد الله الفيصل، يمرر الصحف للطالب الداخلي خالد بعد كل مباراة للأخضر الجداوي الكبير، والعشق يكبر، ينمو كالعمر، يكبر مع خالد كسنوات خالد في هذه الحياة، يتغلغل في الأوردة والشرايين والعظام، في كل تفاصيل حياته لا انفكاك منه مهما كانت الحال والأحوال. عشق عجيب ومن الحب ما قتل.
.. في إحدى المباريات شعر العاشق أن طاقيته التي تطوق رأسه بدأت تصغر، تنكمش، حضر الطبيب وقال: تعرضت لضغط نفسي رهيب، ولا بد أن تبتعد عن مشاهدة مباريات الأهلي، رد العاشق المغرم: لا أستطيع. قدم الطبيب بعض الأدوية المساعدة، استمر في تناولها أعواما لكن الحالة ازدادت فكان الحل الهروب إلى أبحر في رحلة تمتد ساعة ونصف ذهابا وإيابا بلا هدف غير الغياب.
في سنوات الجامعة تحول خالد بن عبد الله المشجع إلى خالد اللاعب، التحق بصفوف الأهلي موسمين، كاد رفض والده الراحل الكبير أن يئد رغبته الجامحة، وكان اللقاء بينهما حاسما، لم يقبل عبد الله بن عبد العزيز في بداية الأمر أن يكون ابنه لاعب كرة قدم، لكن خالد قال جملة حاسمة: "يا سيدي أنت تحب الخيل وهي رياضة، أنا أحب كرة القدم وهي رياضة"، ابتسم الراحل الكبير ابتسامته التي يحفظ السعوديون كل تفاصيلها محبة وكرامة لقائد لا ينسى، وقال: فليكن.
أمضى خالد بن عبد الله عامين لاعب وسط في صفوف الأخضر، يقول عن هذه التجربة: "منحتني فهما مختلفا لكرة القدم"، يبتسم ابتسامته الخجولة بالكاد تكشف عن بعض أسنانه ويكمل بصوته الهادئ الوقور: "كنت شابا مندفعا مأسورا بالعشق".
لم يبق خالد بن عبد الله بن عبد العزيز مكانا لم يحب الأهلي منه ويخدمه فيه، مشجعا، لاعبا، إداريا، رئيسا للنادي، شرفيا فاعلا، ورمزا كبيرا علامة فارقة في الرياضة السعودية.
.. عندما توقفت السيارة بعد هاتف فيصل، نزل السائق سعيد رفاعي الذي يرافقه منذ 40 عاما ويعرف كل الطقوس، بسط السجادة، وانحنى الرجل الستيني العاشق يسجد لله شكرا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي