العزف المنفرد للبنوك المركزية

أحد أكثر المظاهر الاقتصادية التي تأخذ حيزا من النقاش على الساحة الاقتصادية حاليا هو موضوع السياسة النقدية للبنوك المركزية الرئيسة في العالم. فمنذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، لعبت هذه البنوك المركزية دورا مهما في الحد من آثارها من خلال تأمين الودائع وتوفير خطوط مبادلة الائتمان لعدد من الدول، وكذلك توفير السيولة اللازمة للمصارف التي عانت نقصا كبيرا في السيولة خلال الأزمة. الأمر تكرر في أزمة منطقة اليورو التي أصبح للبنك المركزي الأوروبي دور محوري فيها، وعندما اتخذ رئيسه الحالي ماريو دراجي موقفا قويا عندما تفاقمت الأزمة وهددت بانتقال تأثيرها إلى مناطق أوروبية أخرى في الحد من ذلك من خلال مقولته الشهيرةWill do whatever it takes، وهي إشارة إلى إعطاء دور أكبر للبنك المركزي الأوروبي في معالجة الأزمة. البنك المركزي الياباني أيضا كان له دور مهم في إطار خطة رئيس الوزراء الياباني شينزو أبي للخروج باليابان من حالة الركود الطويلة بتبني خطة التحفيز النقدي النوعي والكمي كأحد عناصر الخطة الرئيسة.
لكن هذا الدور المتزايد للبنوك المركزية هو حالة جديدة لم تعهدها من قبل، ولذلك فإن هناك جدلا كبيرا حول هذا الدور وفاعليته وقدرته على تحقيق أهداف البنوك المركزية التقليدية التي تشمل استقرار الأسعار والتوظف الكامل. استمرار أسعار الفائدة على مستواها المنخفض لفترة طويلة، بل بلوغها مستوى الفائدة السلبي في عدد من الدول، يشير إلى عدم فاعلية في سياسات التحفيز النقدي وسياسة التوجيه المستقبليForward Guidance التي تم تبنيها في السابق. والاستمرار في هذا الدور يشير إلى عدد من المخاطر التي يمكن أن تتراكم خلال الفترة القادمة، التي قد لا تتمكن البنوك المركزية من التعامل معها وحدها دون دعم من السياسات الاقتصادية الأخرى، كالسياسات المالية وسياسات الإصلاح الهيكلي. لذلك، فإن السؤال الذي تدور حوله رؤى الكُتاب خلال هذه الفترة هو ما إذا كانت البنوك المركزية قد استنفدت أدواتها؟ قد تبدو إجابة هذا السؤال للوهلة الأولى قد تقف عند واحد من اثنين: نعم أم لا. لكن الإجابة على هذا السؤال لها تبعات كثيرة على دور البنوك المركزية، واستقلاليتها، ومصداقية سياساتها، وعدد من القضايا الأخرى التي مثلت مجالا خصبا للبحث والنقاش خلال السنوات الماضية.
الكاتب الاقتصادي المعروف محمد العريان تطرق إلى هذه القضية في كتابه الذي صدر بداية هذا العام بعنوانThe only game in town، مشيرا إلى أنه على الرغم من الدور الإيجابي للبنوك المركزية في مواجهة الأزمة المالية العالمية، إلا أنها من خلال سياساتها الحالية قد تكون أدت إلى تشويه السياسة الاقتصادية من خلال الفشل في إنتاج النمو الاقتصادي المطلوب والشامل، وأن سياستها النقدية التوسعية قد فاقمت التفاوت في توزيع الدخل بين طبقات المجتمع inequality. كذلك يرى العريان أن البنوك المركزية قد تكون وفرت غطاء للسياسيين الذين لم يدفعوا بالإصلاحات الاقتصادية المطلوبة وذلك حفاظا على مصالحهم الانتخابية. لذلك، فإنه يجب ألا يتوقع أن تقوم البنوك المركزية وحدها بالدور المطلوب لتعزيز النمو الاقتصادي وإيجاد المزيد من الوظائف، بل إن هناك مزيدا من العمل الذي يجب القيام به لإجراء إصلاحات مالية وهيكلية في قطاعات التعليم والصحة وإصلاحات السياسات الضريبية لتهيئة الفرصة لنمو اقتصادي مستدام. المشكلة أن هذه الإصلاحات تصطدم بالخلافات السياسية بين الأحزاب خصوصا خلال فترات الانتخابات كما يحدث حاليا في الولايات المتحدة، ما يجعل فعليا البنوك المركزية، التي عادة ما تكون أقل تأثرا بهذه الانتخابات، اللعبة الوحيدة في الساحة.
صندوق النقد الدولي يؤيد فكرة رفع العبء عن السياسة النقدية والبنوك المركزية من خلال دعم السياسات الأخرى كالسياسة المالية وإجراء الإصلاحات الهيكلية التي تساهم في تحقيق النمو المطلوب. الكاتب الاقتصادي مارتن وولف علق على ما أشار إليه العريان في مقال له في صحيفة فاينانشيال تايمز، مشيرا إلى عدد من الجوانب المتعلقة بالتأثيرات السلبية للاستمرار في السياسة النقدية الحالية الميسرة للبنوك المركزية والتي بلغت حد الفائدة السلبية. فهو يشير إلى عدة جوانب سلبية للفائدة السلبية، حيث إنها قد لا تؤدي الغرض منها في ظل انخفاض معدلات التضخم بشكل كبير، ما يعني أن الفائدة الحقيقية قد تكون إيجابية. كذلك، قد يؤدي الاعتماد على الفائدة السلبية إلى تحفيز الناس على الاحتفاظ بالنقد، وهو ما قد يكون له أثر فعالية السياسة النقدية. كذلك، قد يؤدي الاستمرار في الفائدة السلبية إلى تشجيع المضاربات في أسعار الأصول، ما سيزيد من تذبذب أسواق رأس المال. وأخيرا، فإن تبني الفائدة السلبية من قبل عدد من البنوك المركزية سيؤثر في أرباح المصارف التجارية وبالتالي ضعف انتقال آثار السياسة النقدية التيسيرية إلى الاقتصاد الحقيقي.
هناك شبه اتفاق بين الاقتصاديين على أن البنوك المركزية في الدول المتقدمة تم تحميلها عبئا أكبر من طاقتها لتصحيح مسار الاقتصاد في تلك الدول. وهذا لا يقتصر أثره على اقتصادات الدول نفسها، ولكنه ينتقل إلى الدول والاقتصادات الأخرى خصوصا الاقتصادات الصاعدة. وقد برز ذلك جليا عند إعلان عزم الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بدء تقليل برنامجه للتحفيز النقدي في أيار (مايو) من عام 2013 ما تسبب في خروج كبير لرؤوس الأموال من هذه الدول. أيضا، فإن هناك مخاوف من أن الاستمرار في هذه السياسات التيسيرية هي غطاء لحرب عملات تقودها الدول المتقدمة لتصحيح موازينها الخارجية على حساب الدول الأخرى. وبين هذه وتلك، يظل استخدام السياسة المالية مقيدا بالتجاذبات السياسية للدول المتقدمة، لكن يجب ألا تكون السياسة النقدية وسيلة لتحويل عبء وتكلفة الإصلاحات في هذه الدول إلى الدول الأخرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي