العولمة تواجه أكبر تحد لها
بدأت رياح العولمة في نهاية القرن الـ 19 واتسمت بارتفاع في حجم التجارة العالمية وتدفق كبير للمهاجرين لأمريكا الشمالية. وأنهت الحرب العالمية الأولى هذه الموجة الأولى من العولمة حتى بعد انتهاء الحرب، حيث أدى الكساد العالمي إلى موجة من الحمائية التجارية في العالم وسياسات اقتصادية تركز على تعظيم المصالح الوطنية بغض النظر عن المصالح الاقتصادية العالمية المشتركة ومحاولة زيادة المكاسب التجارية حتى من خلال استخدام أسعار الصرف. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت نهضة جديدة لتعزيز العولمة وتنسيق السياسات الاقتصادية والتجارية بين الدول إدراكا من قادة الدول المنتصرة في الحرب لأهمية ذلك في تعزيز السلم والأمن العالمي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. بدأ ذلك بالتفاوض خلال المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية على اتفاقية بريتون وودز التي انتهت بتأسيس صندوق النقد الدولي الذي أصبح المرجع الرئيس لتنسيق السياسات الاقتصادية وسياسات سعر الصرف، حيث تأسس خلال تلك الفترة نظام سعر الصرف المرتبط بالدولار الأمريكي المقوم بالذهب.
في أوروبا قاد الاقتصادي جان مونيت فكرة توحيد أوروبا، حيث يعد أحد المؤسسين للاتحاد الأوروبي، من خلال عمله مديرا تنفيذيا للجماعة الأوروبية للفحم والصلب. وبدأ المشروع الأوروبي بعدها باتفاقية في عام 1950 بين ست دول ـــ هي ألمانيا الغربية، فرنسا، بلجيكا، لوكسمبورج، هولندا، وإيطاليا ــــ تهدف إلى تعزيز حرية التجارة في السلع ورأس المال وإزالة معوقات حرية انتقال العمل. وتوسع بعدها ليشمل 28 دولة أوروبية تنتظم فيما بينها باتحاد اقتصادي وسياسي يتميز بحرية انتقال رؤوس الأموال والسلع والعمالة. هو إنجاز كبير حققه الأوروبيون خلال 70 عاما من المفاوضات التي لم تكن سهلة على الإطلاق، وتميزت بالتجاذبات السياسية بين أهداف كل من ألمانيا وفرنسا من جهة وبريطانيا من جهة أخرى. فألمانيا وفرنسا رأتا في المشروع الأوروبي مشروعا يستهدف التوصل إلى اتحاد سياسي واقتصادي وحرية كاملة للتجارة والعمل، ونقل السلطات إلى جهاز أوروبي مركزي، بينما رأت بريطانيا عكس ذلك، حيث كانت لديها الرغبة دائما في إبقاء السلطات في أيدي الدول الأعضاء بدلا من نقلها للمفوضية الأوروبية.
هذا التناقض في رؤية كلا الجانبين انتهى إلى التصويت بخروج بريطانيا من الاتحاد، وهو القرار الذي يعد كارثيا بالنسبة لمسار العولمة. فقد أبرز خروج بريطانيا أن هناك سخطا كبيرا من توجهات المشروع الأوروبي وزيادة سلطة المؤسسات الأوروبية التي لا يعدها المواطنون في الدول الأوروبية مؤسسات ديمقراطية تعكس بالدرجة الأولى تفضيلاتهم وتوجهاتهم المحلية. وقد يكون التوجه لتركيز القرار الأوروبي الذي دفعت به كل من ألمانيا وفرنسا لم يأخذ في الاعتبار أن هناك مشاعر غاضبة تغلي في الخفاء جراء ذلك. فقد أدى ذلك على سبيل المثال إلى أن الدول الأعضاء في الاتحاد مجبرة على أن تقدم موازناتها للمفوضية الأوروبية التي تفرض شروطا صارمة عليها بما في ذلك إمكانية فرض الغرامات على الدول في حال تجاوزت أهدافا محددة للعجز والدين العام. كذلك، فإن التوجه لتحقيق الاتحاد المصرفي لاستكمال متطلبات الاتحاد النقدي أدى إلى فرض إصلاحات كثيرة على الدول الأعضاء، وتركيز بعض السلطات في الاتحاد كقرارات التسوية للمؤسسات المالية المتعثرة.
هذا التقدم في التقارب على مستوى الاتحاد الأوروبي كان يخفي مشاعر وطنية مغايرة ترى فيه انتزاعا للسيادة الوطنية. وهذا الأمر يزداد في ظل التفاوت بين التوجهات الألمانية والفرنسية التي تتميز أنظمتها الاقتصادية بدور كبير للدولة في إدارة النشاط الاقتصادي وبين بريطانيا التي ترى دورا أكبر للسوق وأقل للحكومة في إدارة النشاط الاقتصادي. فالبريطانيون يَرَوْن أنهم يدفعون ثمنا كبيرا لذلك، حيث ارتفع عدد العمالة الأجنبية في بريطانيا للضعف عن مستواها في عام 1993 لتبلغ ستة ملايين عامل بما يمثل 10 في المائة من قوة العمل. والمشاعر المعادية للمشروع الأوروبي لم تكن موجودة فقط عند البريطانيون، ولكنها عند الفرنسيين والإسبان الذين أظهرت نتائج استبيان تم القيام به أخيرا أن غالبيتهم لا يفضلون الاتحاد الأوروبي، بينما في ألمانيا كانت النسبة متساوية بين من يفضلون ومن لا يفضلون الاتحاد. وقد تكون نتائج هذا الاستفتاء مدفوعة بالمشاعر السلبية تجاه الاتحاد التي نمت في ظل الجدل الكبير حول قضية الهجرة التي سببت انقساما كبيرا بين الدول الأعضاء في الاتحاد. لكن أيضا هناك عوامل قد تكون أبعد من قضية الهجرة، التي تتمثل في اعتقاد أن مؤسسات الاتحاد الأوروبي لا تعكس بالضرورة النظرة الوطنية وتعكس في الدرجة الأولى نظرة البيروقراطيين العاملين في هذه المؤسسات الذين لا يأتون من خلال العملية الديمقراطية في الاتحاد الأوروبي. بالتأكيد، إن خروج بريطانيا يمثل تهديدا قويا لموجة العولمة، حيث ستزداد على أثر ذلك التفضيلات الوطنية وهو ما يهدد قدرة الاتحاد الأوروبي على الاستمرار في التقدم في الاندماج السياسي والاقتصادي بين دوله. على جانب آخر، يرى البعض أن خروج بريطانيا سيمثل فرصة إيجابية للاتحاد الأوروبي للمضي قدما في إصلاحات لم يستطع المضي فيها في ظل وجود بريطانيا التي كانت تقف حجر عثرة في وجه الكثير من الإصلاحات والتشريعات التي تهدد سيادتها الوطنية. لكن خروج بريطانيا هو واحد من مظاهر معادية للعولمة تنتشر بشكل تدريجي في أنحاء مختلفة من العالم. ففي الولايات المتحدة يمثل بروز دونالد ترامب أكبر تهديد للعولمة من خلال رغبته في إلغاء اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا (كندا وأمريكا والمكسيك). وبروز ترامب هو انعكاس للرغبات الشعبية المعادية للعولمة في الولايات المتحدة، ما يجعل العولمة تواجه أكبر تهديد لها على مدى الـ 70 عاما الماضية.