الأسواق الأمريكية: عودة إلى الوراء
أغلق مؤشر "داو" يوم الإثنين على مستوى قياسي جديد (18506.41) نقطة، محققا بذلك ثالث ارتفاع قياسي له على التوالي. أما مؤشر S&P فقد أضاف 0.5 في المائة ليصل إلى مستوى 2163.75، وهو رابع إغلاق قياسي له على التوالي.
ويعزو المحللون الارتفاعات المتواصلة في أسواق الأسهم الأمريكية إلى عدة أسباب، أبرزها أسعار الفائدة المنخفضة، وكذلك انخفاض مستويات البطالة إلى حد أدنى من 6 في المائة (وهو الحد الذي حددته رئيسة "الفيدرالي" في لقائها الأول كشرط لمراجعة أسعار الفائدة). ورغم أن نسبة البطالة في الولايات المتحدة قرب أدنى مستوياتها من عام 2000 (فترة رئاسة الديمقراطيين بقيادة كلينتون) ورغم أنها لامست نسبة 10 في المائة إبان الأزمة المالية الشهيرة عام 2008، إلا أنها عادت للانخفاض التدريجي على مدى السنوات الثماني التالية إلى مستويات اليوم.
فما العوامل الاقتصادية التي أثرت في هذا الارتفاع؟
يجدر بنا العودة في نظرة تاريخية إلى الوراء لعلها تساعد على استقراء الأسواق للفترة المقبلة. حتى فترة السبعينيات لم يكن الاقتصاديون يؤمنون بإمكانية الجمع بين انخفاض البطالة unemployment والتضخم inflation، حيث ينص المنطق الاقتصادي على العلاقة العكسية بين الاثنين، بحيث إن انخفاض البطالة يؤدي حتما إلى ارتفاع نسبة التضخم. وتراوح متوسط التضخم منذ عام 2006 حتى اليوم بين 1.5 و2.3 في المائة، مع تقلبات متباينة في أثناء الفترة نفسها. ويحدد الاقتصاديون نسبة 2 في المائة كنسبة سنوية معقولة ومعتمدة للمدى الطويل، مع إبقاء البطالة تحت حد 6 في المائة.
وفي أوائل السبعينيات ظهر لغز ما يسمى الركود التضخمي Stagflation، فلم تتمكن نظريات "كينز" Keynes (تؤمن بتدخل الدولة نقديا وماليا للتحكم في تنشيط الدورة الاقتصادية) من تفسيره، حيث إن استخدام السياسة النقدية (أسعار الفائدة) لتحفيز الاقتصاد (وخفض البطالة) سيؤدي حتما إلى زيادة مستوى التضخم، وأن سياسة الانكماش recession لمحاربة التضخم ستفاقم مستويات البطالة وهكذا يصبح الدوران في حلقة مفرغة.
من هنا ظهر مفهوم اقتصادي جديد تصدره ميلتون فريدمان Friedman الذي اقترح أن مشكلتي التضخم والركود ترتبطان مباشرة بمعدل النمو في السيولة النقدية، بحيث إن تدخل الأدوات النقدية Monetary والمالية Fiscal (نسبة الضرائب) التي تستخدمها الدولة لخفض البطالة أقل من مستوياتها الطبيعية التي تسبب الركود التضخمي. وهذا ما رأيناه فعليا، حيث ظلت السياسة النقدية المفتعلة تتحكم منذ تلك الحقبة في الدورات الاقتصادية للولايات المتحدة، بحيث تصنع نشاطا اقتصاديا قويا لفترات قصيرة بشكل غير طبيعي ولا مستدام، لأن هناك ما يسمى البطالة الطبيعية Natural Rate of Unemployment وهي جزء من المنظومة الطبيعية للاقتصاد.
في عام 1979 بدأ "الاحتياطي الفيدرالي" بتطبيق "الركود المفتعل"induced Recession من أجل الحد من التضخم، وذلك برفع أسعار الفائدة (وصلت إلى مستويات 20 في المائة) وعانت في أثنائها قطاعات رئيسة، وعلى رأسها المساكن والتعمير والسيارات والاستثمار المؤسسي لمدة ثلاث سنوات، وظل خلالها مؤشر S&P ومؤشر "داو جونز" بلا تغير يذكر. وحان بعدها تغيير السياسة وتخفيف معاناة المواطن الأمريكي، وجاء عهد الرئيس رونالد ريجان وحلول اقتصادية جديدة.
نكملها في المقال القادم.