الأسواق الأمريكية: عودة إلى الوراء (2)

عندما انتخب الرئيس رونالد ريغان، اشتهر عهده بسياسة "اقتصاد العرض" Supply – side economics التي من خلالها يتم خفض الضرائب وربع مستوى العائد الحكومي وتسريع معدل النمو الاقتصادي GDP وهي بلا شك وصفة "سحرية" كان من المأمول أن تأتي بثمارها، بافتراض أن الفرد الأمريكي سيعمل أكثر وترتفع مدخراته واستثماراته لو انخفض مستوى الضريبة المفروضة عليه. أيضا افترضت هذه النظرية أن انخفاض دخل الدولة الناتج من الخفض الضريبي سيعوض من ارتفاع الناتج الإجمالي المحلي (المفترض)، لكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، فعلى الرغم من أن الاقتصاد شهد تحسنا كبيرا لكنه أيضا شهد عجزا في الميزانيةBudget deficit. وفي عهد الرئيس التالي (جورج بوش الأب) شهد الاقتصاد الأمريكي تراجعا ملحوظا أقلق جمهور العلماء الاقتصاديينNew Classical advisors الذين رفضوا مبدأ "الإصلاحات المؤقتة" السريعة مفضلين الحلول الطويلة الأجل بصرف النظر عن التقلبات المرحلية المتوقعة خلال الفترة.
ولو توقفنا قليلا عند هذه النقطة لوجدنا أن سياسة الإصلاح السريع المؤقت Quick Wins هي ما يتبعه كثير من البيروقراطيين في منطقتنا؛ فيأتي المسؤول ويمحو البرامج السابقة أو يبحث عن حلول سريعة لأعطال سابقة فيسطع نجمه ويتوقف التطوير بعد رحيله.
استمع الرئيس بوش لرأي الاقتصاديين وظل الاقتصاد في تراجع حتى موعد الانتخابات الجديدة عام 1992 لصالح الرئيس بيل كلينتون الذي وعد الناخبين باقتصاد مزدهر وعصر جديد. والطريف هو أن الرئيس كلينتون لم يقدم كثيرا ليحفز الاقتصاد، لكن الأسواق تفاعلت بإيجابية وأعطت هذا الإيحاء، وأعيد انتخاب الرئيس كلينتون مجددا في عام 1996، وهنا شهد اقتصاد الولايات المتحدة (فترة التسعينيات) أطول مدة ازدهار في تاريخه دون الدخول في أي حرب أو مواجهات عسكرية.
وصل الرئيس جورج بوش الابن للرئاسة وسرعان ما تراجع الاقتصاد ثم شهدت البلاد نكسة الحادي عشر من سبتمبر وبعدها حربين في العراق وأفغانستان. ولا ننسى أنه في خلال الفترة نفسها - وتحديدا في كانون الأول (ديسمبر) 2001 - تم انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية WTO وأغرقت السوق الأمريكية بسلع زهيدة ومدعومة من الدولة، ما نتج عنه إغلاق أكثر من 50 ألف مصنع وفقدان أكثر من خمسة ملايين وظيفة. وفي عام 2007 حلت كارثة الرهن العقاري ما نتج عنه أسوأ انحسار اقتصادي منذ حقبة الثلاثينيات. ومن هنا بدأت رحلة التحفيز الاقتصادي Fiscal stimulus التي تشهدها أمريكا تاريخيا واستخدمت خلالها كذلك جميع الوسائل النقدية الممكنة Quantitative easing ومرة أخرى كان الفشل حليف هذه السياسة التي قاومت جميع الحلول "الكينزية" (نسبة للبروفيسور جون كينز). في هذا العام انتهت سياسة الخفض الضريبي لأصحاب الرهونات العقارية ما سبب تراجعا قويا في الطلبات على القروض وبالتالي شراء المساكن. وفي أيار (مايو) 2010 هوت الأسواق الأمريكية بشدة فيما يسمى بـFlash crash وكان عام 2010 عام تراجع اقتصادي عصيب لكنه كان عام معاقبة المؤسسات المالية والمصارف لوقف الفساد الإداري والمالي الذي كان السبب وراء أزمة الرهن العقاري في 2007 - 2008.
وهكذا نرى أن الإصلاح الاقتصادي عادة ما يكون مصحوبا بثمن عال سواء من الجانب الاقتصادي أو المجتمعي أو السياسي، لكن المؤكد أن الحلول القصيرة الأجل تظل في النهاية مكاسب مؤقتة وغالبا ما تليها صعوبات أكبر وأشرس، وأن محاولة الدولة لتحسين الاقتصاد نقديا أو ضريبيا فقط لن تجدي، بل يتطلب رؤية واضحة وخلوا من الفساد والتضافر الموحد لتحقيق الهدف.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي