لماذا تغيرت توقعات الإمدادات قبيل اتفاقية تجميد الإنتاج؟
نستغرب توقعات إمدادات النفط الأخيرة المتشائمة لمنظمة أوبك ووكالة الطاقة الدولية اللتين أكدتا سابقا تأثير انخفاض الأسعار في استثمارات المنبع، وبالتالي نقص الإمدادات الذي سيمتص الفائض من المعروض، ويعيد التوازن إلى أسواق النفط! تقاريرهما الشهرية الأخيرة التي جاءت متسقة، وفي نفس الوقت فرضت على الأسواق تشاؤما، مع أن لكل منهما جهة تعمل لتحقيق مصالح مختلفة عن الأخرى، فإذا افترضنا التدخل اليدوي في نماذج توقعاتهما الحسابية، عندها ستقدم منظمة أوبك دراسات تدعو إلى توازن العرض والطلب والحفاظ على مستويات أسعار تحقق النمو الاقتصادي لأعضائها من الدول المنتجة، وبالتالي نتوقع أن تقدم وكالة الطاقة الدولية توقعات لتخفيض أسعار النفط لتحقيق الفائدة لدولها المستهلكة. فإذا تقرر عكس ذلك، عندها نتساءل، لمصلحة من يمكن أن يجير استمرار اجترار التوقعات المحبطة والتصريحات المتشائمة بدل التفاؤل، وفي وقت أحوج ما تكون فيه الأسواق ودول الإنتاج إلى الاستقرار وإلا فما تفسير، اختيار هذا التوقيت بالضبط قبيل اجتماع تجميد الإنتاج في الجزائر نهاية هذا الأسبوع؟
كما يعلم الجميع أن التقلبات في أسعار النفط تعود إلى أسباب متنوعة، منها الواقع ومنها المتوقع، تأتي عن طريق حسابات النماذج الرقمية لمعطيات العرض والطلب في المدى القصير "سنة" أو المدى المتوسط "خمس سنوات"، وما يبنى على ذلك من تشاؤم أو تفاؤل بحسب تقارير تصدرها بين الوقت والآخر المنظمات الدولية بناء على هذه التوقعات.
وكما هو معلوم أيضا فإن منظمة أوبك كمنظمة للدول المصدرة للنفط تعتمد على صادراتها النفطية بالدرجة الأولى لتحقيق النمو الاقتصادي لأعضائها. فهي كيان يسعى إلى تحقيق أكبر قدر من الضرورات اللازمة لإيجاد بيئة صحية لتداول الصادرات النفطية بما يحقق أهداف الدول التي تمثلها، وذلك بوضع سياسات، وخطط واستراتيجيات تعتمد على دراسات متعمقة في كل المسارات التي تؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في استقرار أسواق النفط بما يضمن مصالح دول الإنتاج بالدرجة الأولى واستقرار الأسواق للدول المستهلكة بالدرجة الثانية.
#2#
أما وكالة الطاقة الدولية فهي منظمة دولية تعمل في مجال البحث والتطوير، وتسويق تقنية الطاقة واستخداماتها، شكلت في عام 1973 من 16 دولة صناعية بعد أزمات النفط.
بنظرة سريعة لهاتين المؤسستين يتبين لنا لكل منهما جهة تعمل لتحقيق مصالحها، وأن مصالح كل جهة وبطبيعة مجالها تختلف في غالبها عن مصالح الأخرى، فعندما تقدم "أوبك" دراسة لدولها تدعو إلى توازن العرض والطلب حفاظا على مستوى الأسعار عند حد يحقق لها الربح المرضي، نتوقع أن تتقدم وكالة الطاقة الدولية بتوقعات ودراسات تدعو إلى انخفاض الأسعار..... مثلا!
الغريب في الأمر التركيز في هذه الفترة على إقناع الجميع بتفاقم توقعات تخمة المعروض في الأسواق العالمية وانخفاض الطلب!، لمصلحة من توافق منظري دول الإنتاج ومنظري دول الاستهلاك، ولماذا هذا التوقيت بالضبط!
واللافت هنا أن تكون منظمة أوبك ووكالة الطاقة قد أفادتا بعكس هذا التوقع في السابق، ما أثر في الأسواق سلبا بكل تأكيد. منظمة أوبك في تقريرها الشهري الأخير، توقعت استمرار فائض المعروض على حساب الطلب من الخام، وجاءت توقعاتها على النقيض من مساعيها لإنجاح اجتماع الجزائر الرامي إلى التوصل إلى اتفاق حول تجميد إنتاج النفط للسيطرة على تدهور الأسعار، وبث الاطمئنان في أسواق النفط العالمية.
#3#
الجدير بالذكر أن تقريرها يصدر شهريا في زمن قريب من توقيت إصدار التقرير الشهري لوكالة الطاقة الدولية، التي صرحت بدورها هي الأخرى أيضا باستمرار زيادة المعروض خلال الأشهر المقبلة، أو خلال النصف الأول من 2017 على أقل تقدير، مع هبوط في نمو الطلب العالمي على النفط، بالتزامن مع ارتفاع المخزون وزيادة الإمدادات، ما يعني أن أسواق النفط ستظل متخمة بالمعروض خلال الأشهر الستة الأولى من 2017 على الأقل بحسب تقريرها. ولو توقف الأمر هنا باعتباره نتيجة دراسة أخذت بكل الأدوات المتاحة بعد استقراء جميع المعطيات، ورصد جميع التحركات المتعلقة بالنفط، فانتهت لهذا التوقع، لهان الأمر، لكن هذا التباطؤ المتوقع في الطلب جاء بحسب تقاريرهم نتيجة إلى توقع تخفيض معدلات تشغيل المصافي العالمية هذا العام على الأقل إلى أبطأ وتيرة لها خلال السنوات العشر الماضية، وهو ما سيقلص الطلب على النفط الخام مع ارتفاع المخزون في الدول المتقدمة إلى مستوى قياسي!
وكانت وكالة الطاقة الدولية ومنظمة أوبك، اللتان يفترض فيهما العمل بكل حيادية، كل على حدة، منفردة ومنفصلة في عملها كما أسلفنا عن الأخرى، بعيدتين كل البعد عن تسييس واجباتهما. فيا ترى واقع هاتين العملاقتين المختصتين عندما توقعتا معا في وقت سابق اختفاء فائض المعروض من السوق في النصف الثاني من هذا العام؟!
هل هو أحد أخطاء وكالة الطاقة كما حصل في توقعاتها عام 2007؟ عندما تسببت في ارتفاع شديد في أسعار النفط، بسبب توقعها الخاطئ في سبتمبر 2006 بأن دولا خارج "أوبك" سيرتفع إنتاجها بمقدار 1.8 مليون برميل يوميا في2007، واستجابة لهذا التوقع خفضت "أوبك" الإنتاج بالكمية نفسها تقريبا "1.7 مليون برميل" في مستهل 2007 تفاديا لانهيار أسعار النفط. هذا التوقع الذي تبين أنه كان خاطئا وبشكل فادح حيث كانت الزيادة الفعلية وحسب وكالة الطاقة حينها هو 500 ألف برميل فقط، أي بفرق 1.3 مليون برميل أقل مما توقعت الوكالة.
#4#
الخطأ وارد، لكن ما الذي وقع لمنظمة أوبك وهي مستقلة عنها في دراستها ووسائلها في التوقعات، وكذلك في أهدافها في الحفاظ على توازن أسواق النفط؟!
وللإجابة عن هذه الأسئلة بطريقة تجلي الحقيقة سندخل في متاهة من الافتراضات، تشبه الإجابة عن أيهما جاء أولا، البيضة أم الدجاجة؟
توافق في التشاؤم يفرض على الأسواق توافقا في الحذر ويفرض على المراقبين التفكير في مدى مصداقية وجدوى الاعتداد بما تقدمه هاتان العملاقتان من توقعات.
تقرير وكالة الطاقة وكذلك منظمة أوبك بدل أن يكون كما هي العادة مصدر اطمئنان للأسواق أصبح العكس! فازدادت أسواق النفط حيرة، وأصبح التوجس السلبي والغموض سيدي الموقف، بعد أن اطلع الجميع على التقريرين اللذين جاءا بتوقع استمرار تخمة المعروض في العام المقبل، وذلك بعد شهر واحد من تقارير سابقة لهما تظهر بتوقعاتها كثيرا من التفاؤل وتبث القدر الكبير من الاطمئنان لأسواق النفط!
والتشاؤم الحالي كما هو واضح لكل المعنيين يأتي في ظرف دقيق ووقت حساس، فقد جاء لا أدري قدرا أم بتخطيط مسبق قبيل اجتماع الجزائر بين منتجي النفط من داخل "أوبك" وخارجها لاتخاذ خطوة تاريخية سيكون لها ما بعدها وذلك بتجميد الإنتاج، وجاء بعد اتفاق روسيا والسعودية في قمة مجموعة الـ 20 في الصين على استمرار التعاون لضمان استقرار أسواق النفط.
توقعات جاءت بأن تتجاوز الإمدادات العالمية الطلب في العام المقبل، في حين جاء تقرير "أوبك" الشهري ليفيد بأن أكبر المنتجين في العالم يتوقعون تسارع وتيرة الإنتاج خارج منظمة أوبك، ما يشير إلى احتمال وجود فائض من المعروض في السوق في 2017. ولعل من اللافت أيضا أن تقرير منظمة أوبك الشهري الأخير جاء متناقضا كليا مع تقريرها السنوي لتوقعات النفط العالمية World Oil Outlook، حيث تتوقع فائضا نفطيا أكبر في 2017 لإمدادات النفط من خارج المنظمة في 2017 مع دخول حقول جديدة للإنتاج وإثبات شركات التنقيب عن النفط الصخري الأمريكي مرونة أكبر من المتوقع في التعامل مع أسعار الخام المتدنية، ما يشير إلى فائض كبير في الأسواق العام المقبل!
في حين كانت التوقعات في نهاية عام 2015 عند صدور توقعات النفط العالمية لمنظمة أوبك على المدى المتوسط، جاءت توقعات إمدادات منخفضة، مقارنة بتوقعات العام الماضي، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى بيئة أسعار النفط المنخفضة وتأثيرها في تقليص استثمارات المنبع الناتجة عن ذلك وبالتالي إلى تقليص الإمدادات!
ولقد أكد تقرير "أوبك" لتوقعات النفط العالمية، أن تأثير انخفاض الأسعار في استثمارات المنبع واضح بالفعل في السوق، بل والأكثر وضوحا في إنتاج النفط الخام، نظرا لردة الفعل السريعة على أسعار النفط في ظل وجود انخفاض نشاط الحفر، ومعدلات الانخفاض الحادة في آبار النفط الصخري التي من المحتمل أن يتقلص إنتاجها سنويا إلى أن يكون سالبا.
وكالة الطاقة الدولية بدورها تقود قاطرة التوقعات المتشائمة في هذه الفترة فهي كما أسلفنا كانت قد أكدت سابقا أنها مسألة وقت فقط لتعود أسواق النفط إلي التوازن والاستقرار، ثم تأتي الآن لتتوقع أنه قد لا تتغير ديناميكية الطلب بشكل ملحوظ، وأن الطلب سيواصل تفوقه عن العرض وأنه يبدو أننا قد نضطر إلى الانتظار لفترة أطول!
ونستغرب هذا التشاؤم لأن منظمة أوبك ووكالة الطاقة الدولية سابقا أكدتا أن تأثير انخفاض الأسعار في استثمارات المنبع والإمدادات والعرض، سيكون واضحا بالفعل في السوق، وأن الأكثر وضوحا سيكون في إنتاج النفط الصخري "غير التقليدي"، لأن إنتاجه آخذ في الانخفاض بشكل واضح، وسيتسارع هذا الانخفاض في عام 2016، وبهذا الوضع فنحن أمام احتمالين:
الأول: أن توقعاتهما السابقة خاطئة كليا، وبالتالي يكون الوقت قد حان لنتساءل عن نماذجهما الحسابية: "نموذج الطاقة العالمي" لوكالة الطاقة الدولية World Energy Model (WEM) ونموذج الطاقة لمنظمة أوبك
OPEC World Energy Model (OWEM) اللذين بدأ استخدامهما منذ عدة عقود! هل ما زالت هذه النماذج تعمل بفاعلية؟ هل هذه الأخطاء مقصودة، بنشر معلومات غير مطابقة للواقع؟
الثاني: أنهما تتعمدان نشر معلومات غير صحيحة، ومغايرة للتوقعات الحقيقية جهارا نهارا. وفي كلتا الحالتين، فهناك علامة استفهام كبيرة، واحتمال قوي بتدخل العنصر البشري في التعديل اليدوي لهذه النماذج! وهنا نقول: لماذا؟ وما السر في اختيار هذا التوقيت الحساس؟
هل يفعلون ذلك عن قصد أم أنهم يخطئون؟ أيا كان الجواب، فهناك توجه واضح ومتعمد نحو تكريس التشاؤم بدل التفاؤل، وفي وقت أحوج ما تكون فيه الأسواق ودول الإنتاج إلى الاستقرار.. فهل تنازلت "أوبك" عن سيادتها وسمعتها لتكون تبعا لوكالة الطاقة الدولية التي تسعى جادة إلى تحقيق أهدافها على حساب مصالح الآخرين وذلك ببث تقارير متشائمة ومتضاربة لخلق توتر في الأسواق ونشر تشويش على مساعي دول الإنتاج، وإلا فما تفسير، اختيار هذا التوقيت بالضبط؟!
أهي محاولة ضغط على اجتماع الجزائر نهاية هذا الأسبوع؟!
ألا يرى معدو تقارير "أوبك" في أن محاولة وكالة الطاقة وشركائها الضغط في هذا الاتجاه من الممكن أن يعوق الجهود، بل ربما أفشل المحادثات الرامية إلى تحقيق اتفاق تجميد النفط؟!
لماذا هذا الإرباك في أسواق النفط؟! ألا يعتبر اتفاق تجميد إنتاج النفط هو السبيل الأكثر فعالية لتحقيق الاستقرار والتوازن في أسواق النفط؟ أليس من أهم أهداف المرحلة أن يتوصل المعنيون من خلال اجتماع الجزائر الذي أظلنا موعد انعقاده إلى حلول ناجعة تسهم في امتصاص الفائض من المعروض، وبالتالي ضبط الأسعار؟ أهي زوبعة من أجل التأثير في الرأي الجمعي للعازمين على المشاركة في هذا الاتفاق التاريخي؟!
وأخيرا أرى شخصيا أن تغيير التوقعات التي كانت متفائلة إلى عكسها من خلال منظمتين تعملان في بيئتين مختلفتين "دول إنتاج، ودول صناعية مستهلكة" وفي التوقيت نفسه، مهما أعملنا حسن الظن فلا بد من القول إنه قد يكون هناك تداخل غير مفهوم، عند مطابقة أرقام المنظمتين قبل نشر تقريرهما.